"دوري سرمديًا يا ساقية الذهب"، أو باللغة النوبية "دُريج إوري ووا نب –ن- أرجديه"، والساقية هنا ترمز إلى الحياة الزوجية.
وعادات الزواج في النوبة القديمة، عادات مختلفة ومتشبثة في الذاكرة، وقد اهتمت بها دراسة، بشكل مفصل ومتأن، أجراها الباحث مصطفى محمد عبد القادر، مركزًا على هذه العادات وما بقي منها بعد التهجير.
يتميز النوبيون بانغلاقهم النسبي فهم يفضلون الزواج من داخل نفس العرق النوبي وأحيانًا من نفس العائلة
يُقال إن كلمة نوب في النوبية تعني "الأصل" وكما اختلفت المصادر في تحديد الأصول السلالية للنوبيين، تؤكد الكثير من الدراسات أن التشابه في أسلوب المعمار والصناعات اليدوية مثل السلال والخزف والغزل، يدل على أن انحدار النوبيين من العصر الفرعوني أمر مرجح جدًا.
على أي حال، وردت الإشارة الأولى لأهل منطقة النوبة وسكانها في كتابات العالم الجغرافي اليوناني أرسطنينوس (240ق.م) حيث قال: "و يقطن أهل نوباي الضفة الغربية للنيل.."، كما ورد مكانهم عند العالم الروماني استرايون (27 ق.م)، وقال إن "النوباي كانوا يملكون ضفة النيل شرقًا وغربًا".
يتميز المجتمع النوبي بأنه مجتمع أبوي تتضح فيه سيطرة السلطة الأبوية وخاصة في عادات الزواج. كما يتميز النوبيون بانغلاقهم النسبي كمجتمع عرقي، فهم يفضلون الزواج من داخل نفس العرق النوبي وأحيانًا من نفس العائلة، فبين العائلات التي تعيش في أرض النوبة لا بد أن يهب أهل العريس بعض الهبات مثل أجزاء من ساقية أو بعض من أشجار النخيل أو قطعة أرض تنتقل ملكيتها من الأب لابنه أو من الخال لابن الأخت، لذا فهم يعتبرونها ممتلكات يعاد توزيعها فيما بينهم، أي أنها لا تخرج من إطار العائلة الموسعة عادة.
كما ينتشر بين النوبيين "زواج البدل" أي أن يتزوج الأخوين أختين، وهو ما يسبب مشاكل كبيرة لأنه يكون مبنيًا على صداقة شابين أو النذر بتبادل الزواج بين العائلتين منذ طفولة الأبناء وهو غير مبني عن قناعة أو تفهم حقيقي.
ظلت هذه العادات سائدة في المجتمع النوبي إلى بدايات التهجير بعد غرق عدة قرى إثر تعلية خزان السد العالي مرتين متعاقبتين في عامي 1912 و 1932، وحسبما جاء في المسح الذي أجرته وزارة الشؤون الاجتماعية في مطلع العام 1960 فإنه كانت هناك48028 نسمة مقيمة بالمنطقة أثناء المسح و 50581 نسمة مغتربة.
وقامت إدارة عبدالناصر بعد التهجير بتسكين المقيمين منهم فقط وأرجأت النظر في أمور المغتربين إلى أجل لم يحن حتى الآن. وفي ظل التشتت الذي تعرضت له الأسر والتحرر من السلطة الأبوية، تراجعت الكثير من هذه العادات وبدا ممكنًا الزواج بأخرى من خارج العائلة على أن تكون نوبية، وهو شرط أساسي.
زي العروس في النوبة يُسمى بالجرجار لطوله وكسوته الكاملة المليئة بالحلي الذهبية التي تتعدد وتتنوع
أهم يوم في الإعداد للزواج بعد معرفة هوية العروس هو يوم "السِما" وهو اليوم الذي يجتمع فيه أهل النجع أو القرية في بيت العريس ليقتسموا فيما بينهم المهام، فالنسوة الكبار ينظفن الغلة (الحبوب) وتذهب الشابات إلى النيل لجلب الماء ثم يأتين بالوجيد (وهو الوقود الخفيف من روث البهائم وأجزاء من جريد النخيل والسنط للخبيز) والرجال يجمعون الأخشاب اللازمة للطهي الطويل في القدور.
ومن المهم جدًا تحديد شخصية الوزير أو الحرَاس، بفتح الحاء، وهو المساعد الذي يمد العريس بملابسه و يظل معه طوال العرس أو ما بات يُعرف هذه الأيام بـ"الإشبين".
شاهد: الزواج على الطريقة النوبية
زي العروس في النوبة يُسمى بالجرجار لطوله وكسوته الكاملة المليئة بالحلي الذهبية، التي تتعدد وتتنوع للدرجة التي جعلت من المستحيل أن يمتلكها كل بيت إلا أن هناك بيوتًا معينة في القرية باتت معروفة بوجود هذه الحُلي فيها تستعير منها باقي العائلات ما تشاء لتقديمها أمام شهود عقد القران ثم تعاد إلى البيت الذي استعيرت منه بعد إتمام مراسم الزواج.
تتنوع الإيقاعات النوبية ويسمى الإيقاع الرئيس للرقص بـ"الكوم باك" أما أشهر الرقصات النوبية فهي رقصة الكف حيث يشكل الرجال نصف دائرة وتشكل النساء نصف دائرة ويقف المغنون في المنتصف ويتبادلون الدب على الأرض بالأقدام مع التصفيق بالأيدي.
واختلفت كثيرًا من هذه العادات بعد التهجير حيث فقد "يوم السما" وظيفته بسبب تشتت الأسر بعد غرق الأرض وانخفضت المتطلبات المادية والهبات، التي كانت تهب للعريس أو للعروس، كما أن كثيرًا من الهبات فقدت بفقدان الأرض "رأس مالها" الكبير، واقتصرت كثير من التحضيرات على اليوم الواحد وهو يوم الزفاف.
وأخيرا فإننا حين نتحدث عن عادات للزواج في النوبة فنحن بالطبع نقصد النوبة القديمة، حيث كان الخير خيرًا بحق وكانت الطبيعة تفرض قيمتها وسطوتها على الكثير من مظاهر الحياة. أما الشيء الوحيد الذي لا يزال باقيًا حتى اليوم فهو إصرار كثير من العائلات على تزويج أبنائها من نوبيين تمسكًا بالعادات والتقاليد، رغم التقليل من الطقوس الأخرى.