نشرت، صحيفة واشنطن بوست الأمريكية، نهاية كانون الأول/ديسمبر الفائت، فيتشر صحفي بعنوان "صحفية مُلهمة توثق جمال غزة، ومن ثم تدميرها"، روى فيه الكاتب والصحفي الاستقصائي كيفن سيف قصة الصحفية الفلسطينية التي بات يتابعها على حسابها على إنستغرام أكثر من ثلاثة ملايين إنسان، بليستيا العقاد، التي مرت بمنعطفٍ مهني حاد بعدما كان من المفترض أن تبدأ عملها كمنشئة محتوى لمنظمة فلسطينية غير حكومية يوم الأحد في الثامن من تشرين الأول/ أكتوبر.
دون سابق تحضير، أصبحت بليستيا واحدة من بضعة شخصيات ستحمل على عاتقها توثيق أكبر قصة في العالم اليوم ونقلها لمئات الملايين حول العالم، بمقاطع قصيرة مصوّرة بالهاتف المحمول، وبقدر ما يسمح به توافر الشحن في الأجهزة والاتصال بالإنترنت.
لم تكن واشنطن بوست الوحيدة التي فردت المساحة للعقاد، إذ فعلت ذلك منابر إعلامية كبرى عربية وعالمية عديدة، أبرزها صحيفة الغارديان وقناة الجزيرة الإنجليزية. كما لم تكن بليستيا "الصحفية المواطنة" الوحيدة التي نالت اهتمام العالم ووسائل الإعلام. إذ خصصت مجلة تايم الأمريكية تقريرًا عن الظروف التي يعيشها معتز عزايزة وبليستيا العقاد وبيسان عودة وهند خضري، تساءلت فيه عن قدرة صمودهم واحتمالات نجاتهم في ظل الظروف التي يشهدها قطاع غزة عمومًا والصحفيين خصوصًا. وفعلت الشيء نفسه منصة "ڤوكس" (Vox) وغيرها من كبرى منابر الإعلام.
قالت صحيفة جيروزاليم بوست الإسرائيلية، في تحقيق لها دون تقديم أدنى دليل، إن الصحفيين/المؤثرين في قطاع غزة ما هم إلا "ناطقون باسم حركة حماس"
لم يكن الاهتمام الذي ناله أولئك احتفاء ودعمًا في كل الأوقات، إذ خرجت من مدة مظاهرة صغيرة في أحد شوارع العاصمة الأردنية عمّان تندد بالمصور الصحفي معتز عزايزة، وتهتف ضده لأنه صوّر شهادات بعض الناس في غزة الحانقون من حماس.
والأسوأ من ذلك، أن صحيفة جيروزاليم بوست الإسرائيلية نشرت الشهر الفائت تقريرًا بعنوان "الكشف عن فريق الدعاية الخاص بحماس"، وفيه قالت، دون تقديم أدنى دليل يدعم ادعاءاتها، إن الصحفيين/المؤثرين ما هم إلا "ناطقون باسم حركة حماس"، يتلقون أوامرهم وتمويلهم وأدواتهم من قياداتها لنشر دعايتها على الإنترنت. لتكشف فيه هوياتهم بعد ذلك وتجعلهم أهدافًا مشروعة لعمليات اغتيال الشخصية في الحيز العام، واغتيال الجسد تحت النار الإسرائيلية.
لكن بغض النظر عن السياق الذي يتم فيه التحدث عن أولئك الصحفيين، سواء كان عن ملايين الناس الذين يتفقدون صباح كل يوم "الستوري" الجديدة التي نشرها معتز عزايزة، والفيديو الذي نشرته بيسان عودة لمعرفة آخر المستجدات، أو حملة التشهير التي تقودها إسرائيل ضدهم، أو حتى المظاهرة الصغيرة المُشار إليها، فإن كل هذه الأفعال دليلٌ على حجم التأثير الذي يحدثه هؤلاء الأشخاص سواءً كمصادر للمعلومة، أو مصادر للقلق، أو مُشكّلين للرأي العام.
وعلى الرغم من وجود عدد كبير من مراسلي الصحف والقنوات التلفزيونية الكبرى الذين ما زالوا يغطون الحرب الجارية على قطاع غزة من الميدان بأحسن صورة، إلا أنهم لم يحظوا بالاهتمام الذي ناله هؤلاء الصحفيون المستقلون، رغم رجاحة كفة الموارد والأدوات لصالح المراسلين وصحفيي المؤسسات، إذا استثنينا حالة الزميل وائل الدحدوح التي رسمتها التراجيديا. وهذه حالة تستحق إعادة التفكير والتأمل في مفهومين لم تعد الخطوط الفاصلة بينهما واضحة تمامًا كما كانت؛ "الصحفي" و"المؤثر".
عزايزة والعقاد وعودة وغيرهم من الصحفيين المستقلين الذين نقلوا إلينا نحن، المقيمين خارج حدود القطاع، فظائع وأهوال الحرب الجارية، هم التجلي الأسرع انتشارًا والأكثر وضوحًا لحديث ونقاش بدأ يُطرح في السنوات الأخيرة، منشئي المحتوى المستقلين (المعروفين اصطلاحًا بـ"المؤثرين") الذين يعيدون تشكيل كيفية حصول الناس على أخبارهم، خاصة المشاهدين الأصغر سنًّا.
بدأت نقطة التحول هذه في سلوك استهلاك الأخبار حول العالم خلال الأيام الأولى لوباء فيروس كورونا، حيث تحول عدد أكبر من الأشخاص إلى منصات التواصل الاجتماعي مثل تيك توك ويوتيوب وإنستغرام مقارنة بالمواقع التي تديرها منافذ الأخبار التقليدية، وفقًا لأحدث تقرير للأخبار الرقمية صادر عن معهد رويترز لدراسة الصحافة، والذي قال إن واحدًا من كل خمسة بالغين تحت سن 24 عامًا يستخدم تيك توك كمصدر للأخبار، بزيادة خمس نقاط مئوية عن العام الماضي.
نتائج تتقاطع بمضمونها مع أحدث دراسات مؤسسة "يو غوف" البريطانية للأبحاث والاستطلاعات التي خلصت إلى أن يوتيوب هو المصدر الأكثر موثوقية للأخبار بين اليافعين، بالإضافة إلى عشرات الدراسات الأخرى التي تؤكد أن وسائل التواصل الاجتماعي هي المصدر المفضل للمعلومة.
ما يجدر ذكره أن معظم هذه الدراسات لم تشمل جمهور مستهلكي الأخبار في المنطقة العربية، إلا أن هناك محاولات للدفع نحو إيلاء المزيد من الاهتمام حول طريقتنا في تلقّينا للعالم من حولنا وتشكيلنا الآراء حوله. ورغم ذلك، فإن الطفرة التي حصلت في شعبية هؤلاء الصحفيين/المؤثرين الفلسطينيين خلال الحرب على غزة، الذين قفزت أعداد متابعيهم عشرات الأضعاف خلال ثلاثة أشهر، تشي بتوجه مشابه للتوجه العالمي، ولا استثناء إقليمي هنا، وإن اختلفت بعض التفاصيل.
صناعة المُنشئين أو المؤثرين تعد من أحدث الصناعات الناشئة، إذ لم يتعدَّ عمرها العقدين من الزمن، لكنها من أسرع الصناعات نموًّا في نفس الوقت، إذ صارت تقدر قيمتها بـ 21 مليار دولار بحلول نهاية العام الفائت، أي ما يقرب من ثلث أضعاف قيمتها في عام 2019 (8 مليارات دولار فقط). ومع استمرار الصناعة في النمو والتنوع، تزداد مسؤوليتها الاجتماعية على نطاق أوسع، وكذلك تداخلاتها مع الصناعات الأخرى.
لقد ولّت الأيام التي كان يُنظر فيها إلى المؤثرين على أنهم مجرد وسيلة للترويج للمنتجات، إذ يلجأ المستخدمون الآن إلى منشئي المحتوى للحصول على المشورة والمعلومات. وعليه فإن ثقة المستخدمين المتزايدة في الأشخاص المؤثرين باعتبارهم منافذ إعلامية ذات مصداقية تعمل على تغيير دورهم كمسؤولي تواصل أو إعلان أو علاقات عامة.
لقد ولّت الأيام التي كان يُنظر فيها إلى المؤثرين على أنهم مجرد وسيلة للترويج للمنتجات، إذ يلجأ المستخدمون الآن إلى منشئي المحتوى للحصول على المشورة والمعلومات
وهذا ما يفسر مسارعة بعض الإعلاميين الناجحين عالميًا وعربيًا، مثل ماكس فوستر من سي إن إن، وصوفيا سميث جالر من بي بي سي، وأحمد الفاخوري من الجزيرة.. وغيرهم للحصول على نصيبهم من الكعكة والمثابرة على صناعة محتوى مخصص لوسائل التواصل الاجتماعي؛ قصير المدة، خفيف المضمون، ومحكي باللهجات العامية.
ولم تمر هذه الزيادة في الثقة دون أن تلاحظها المؤسسات التي تتطلع إلى التواصل مع المستخدمين. حتى أن منظمة الصحة العالمية اختارت المؤثرين لتطلق حملتها التوعوية في ذروة الوباء، في محاولة لجذب صدى لدى الجمهور ونشر رسائل دقيقة حول النظافة والتعقيم والإجراءات الصحية.
وفي حين شهدت بعض الصحف الكبرى، عالميًا وعربيًا أيضًا، مثل نيويورك تايمز وواشنطن بوست والشرق الأوسط والعربي الجديد والبيان، نموًّا في جماهيرها الرقمية، مما سمح لها بالوصول إلى مئات الآلاف من القراء أكثر مما كانت عليه قبل الطفرة الرقمية، شهدت بعض وسائل الإعلام انخفاضًا في حجم الزوار المتدفقين إليها من مواقع التواصل الاجتماعي، وبعض الأموال التي ربما أنفقها المعلنون سابقًا عليها صارت تتدفق الآن إلى المؤثرين. حتى أن بعض وسائل الإعلام التي ولدت على الإنترنت واجهت صعوبات وصلت حد الإغلاق، كما حدث مع "Buzzfeed" و"Vice" و"صوت بيروت إنترناشونال" وغيرهم عشرات الوسائل من مختلف الأحجام والأقاليم.
ومن المرجح أن يستمر هذا الاتجاه. يقول مدير معهد رويترز راسموس كليس نيلسن في التقرير الأخير: "لا توجد أسباب معقولة لتوقع أن أولئك الذين ولدوا في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين سوف يفضلون فجأة المواقع الإلكترونية القديمة، ناهيك عن البث والطباعة، فقط لأنهم كبروا في السن".
وعلى حداثة الظاهرة نسبيًا، لا تزال تداعياتها في دائرة الضوء. أحد التأثيرات الإيجابية هو النظام البيئي الإعلامي سيصبح أكثر تنوعًا، حيث يمكن لمجموعة واسعة من الأصوات أن تتحدى الروايات التي يصوغها حراس الصحافة التقليدية. ولكن هذا يعمل أيضًا على تقويض سلطة المؤسسات الإخبارية القديمة، مما يستنزف الدعم من غرف الأخبار التي تعد المصدر الرئيسي للتقارير الأصلية. كما يفتح الباب أمام مزيد من الانتشار للمعلومات المضللة، في ظل عدم وجود ضوابط وسياسات تحريرية. إلا أنَّ الحرب على غزة أيضًا، كشفت الكثير من العيوب ومكامن الخلل في غرف الأخبار المؤسَّسة تستوجب الوقوف عندها طويلًا مع انتهاء الحرب.
هناك فئة أخرى من المتشبثين بالإعلام التقليدي يرسمون صورةً أكثر قتامة لمستقبل يصبح فيه الصحفيون/المؤثرون مصدرًا أساسيًا للأخبار، يطلقون عليه وصف "حقبة ما بعد الأخبار"، لكنه يبقى من غير المريح سيطرة هذا النوع من التشاؤم والكآبة فيما يتعلق بالصحافة وعمل الصحافة. إذ بينما تشهد الصحافة اضطرابًا وتغييرًا كبيرًا بالفعل، فإن هذا تحول يناسب التكنولوجيا وتفضيلات الجماهير في نهاية المطاف. كما لا يزال هناك الآلاف، كل سنة، يرغبون بممارستها.
معظم الصحفيين/المؤثرين ذوي الشعبية المرتفعة في المنطقة العربية اليوم هم إما شبابٌ، وجدوا أنفسهم مضطرين لأن يكونوا كذلك بين ليلة وضحاها، كما هو الحال مع عزايزة وبيسان وبليستيا وغيرهم من قطاع غزة، أم ممّن راكموا قدرًا واسعًا من الشعبية والمدّخرات ليتخذوا خطوة بهذه الجرأة. إلا أن السؤال عن مدى الحاجة للمزيد من هذه النماذج وتعزيزها بات محسومًا، وهنا ربما يأتي دور وسائل الإعلام التي تودّ حجز مقعدًا في المستقبل.
في ورقة بحثية صدرت عن مركز بوليس للأبحاث الصحفية في كلية لندن للاقتصاد بعنوان "هل يمكن للصحفيين أن يكونوا مؤثرين؟"، يقول الباحثون إن غرف الأخبار ستحقق مكاسب إذا أصبح صحفيوها مؤثرين، لكن المهارات والمسؤوليات الإضافية للدور يجب أن تنعكس في رواتبهم ووصفهم الوظيفي، لا أن تكون عملًا جانبيًا يجب على الناس القيام به في أوقات فراغهم. إذ إن الافتقار إلى الوقت والدعم لمتابعة هذا النوع من إنشاء المحتوى داخل غرفة الأخبار هو أحد الأسباب المحتملة لوجود عدد قليل من الصحفيين المؤثرين.
لذا وبما أن الحرب على غزة رسخت حقيقة هذا الواقع الإعلامي الناشئ، فيتعين علينا أن نبدأ في الاستعداد وفقًا لذلك. كيف ستبدو الصحافة عندما يفضل أكثر ممارسيها تأثيرًا العمل بمفردهم؟ ومن يخسر عندما تضطر المؤسسات الإعلامية إلى التنافس مع صحفيين/مؤثرين منفردين؟ ماذا يحدث عندما تتفكك وسائل الإعلام بشكل كامل بحيث يتنافس الجميع مع بعضهم البعض على جذب انتباه الجميع؟
لقد حان الوقت للبدء في طرح هذه الأسئلة، لأن أساس مشاكل المستقبل يجري إرساؤها اليوم. يمكن لوسائل الإعلام أن تستمر في مطاردة ذيلها، والقيام بنفس الإجراءات الروتينية وتوقع نتائج مختلفة، ولكن ربما حان الوقت لإجراء محادثة أكبر حول النظام من زاوية أخرى.