قبيل أقل من 24 ساعة من موعد لقاء رئيسة الوزراء البريطانية، تيريزا ماي، مع برلمان بلادها الذي كان من المفترض عقده في يوم الثلاثاء 11 كانون الأول/ديسمبر 2018، من أجل أن تنال رضا أعضائه بشأن مشروعها النهائي لخطة خروج البلاد من الاتحاد الأوروبي؛ قضت المحكمة العليا للاتحاد الأوروبي بأن بريطانيا لها الحق في العدول عن قرارها الخاص بمغادرة الاتحاد الأوروبي من جانبها فحسب، وذلك قبل الموعد المحدد لها في الانسحاب في 29 آذار/مارس 2019، دون الحاجة إلى موافقة دول الاتحاد الأوروبي، لتبقى داخله في إطار الشروط الحالية، وفقًا للترتيبات الديمقراطية والدستورية التي تحكم البلاد.
قرار ماي بتأجيل موعد التصويت على خطة الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، يحمل بين طياته اعترافًا بأن خطتها لن تحظى بترحيب البرلمان
يبدو أن قرار المحكمة العليا للاتحاد الأوروبي أربك رئيسة الوزراء البريطانية ماي، لتهرع بعدها إلى إجراء مكالمة جماعية مع وزراء حكومتها، لتقرر بعدها تأجيل تصويت أعضاء مجلس العموم البريطاني.
اقرأ/ي أيضًا: بريطانيو الاتحاد الأوروبي.. احتجاج متأخر ضد البريكسيت
كما يبدو أن قرار ماي بتأجيل موعد تصويت أعضاء البرلمان البريطاني على خطتها للانحساب، إلى أجل غير مسمى، يحمل بين طياته اعترافًا منها بأن خطة مشروع انسحاب بلادها من الكتلة الأوروبية لن يحظى بالترحيب المرجو داخل البرلمان.
تأجيل القدر المحتوم
بالرغم من أن الموعد النهائي للتصويت على خطة مشروع ماي للانسحاب من الاتحاد الأوروبي هو 21 كانون الثاني/يناير المقبل، استند قرار ماي بتأجيل التصويت على خطة مشروعها داخل برلمان بلادها، إلى نصائح مستشارين ووزراء ونواب مقربين.
وكان الهدف من ذلك التأجيل هو كسب المزيد من الوقت للحصول على مكاسب جديدة من خلال مفاوضات جديدة مع قادة الاتحاد الأوروبي تضمها إلى خطة مشروعها للانسحاب البريطاني، بالإضافة إلى تجنب فوضى محتملة جراء هزيمة برلمانية.
بينما جاء الرد على أهداف ماي بتأجيل التصويت للانسحاب من الكتلة الأوروبية، أن اقترح قادتها إمكانية إضفاء "توضيحات" لا أكثر بشأن خطة ماي المتفق عليها، دون اللجوء إلى إعادة فتح باب المفاوضات مرة أخرى، لأنها "أفضل خطة ممكنة"، وبالتالي فليس لديهم النية في تعديلها.
بتأكيدات قادة الاتحاد الأوروبي على عدم إعادة فتح باب المفاوضات، تلاشى أحد هدفي ماي المتمثل في الحصول على مكاسب جديدة جراء تأجيلها عملية التصويت، وإن استطاعت نسبيًا تحقيق الهدف الثاني المتمثل في تجنب الفوضى داخل البرلمان، وإن بشكل نسبي، إذ إن عددًا من نواب البرلمان أبدوا غضبهم من تأجيل التصويت.
بالفعل مر يوم الثلاثاء 11 كانون الأول/ديسمبر دون إجراء تصويت بين أعضاء البرلمان على مشروع خطة ماي للانسحاب من الاتحاد الأوروبي، لكن حالة الهزيمة المخفية بين طيات التأجيل، أثارت القلق على المستويين الاقتصادي والسياسي في البلاد، ففقد الجنيه الإسترليني ما يقرب من 1% من قيمته أمام الدولار الأمريكي واليورو، ليصل إلى أقل قيمة له منذ أكثر من 18 شهر، مع تحذير المديرة العامة لاتحاد الصناعة البريطانية، كارولين فيربيرن، من انزلاق البلاد إلى كارثة قومية، إذا ما فشلت في الوصول إلى اتفاق مع الاتحاد الأوروبي في أسرع وقت.
اختبار الثقة
بعد يومين من إعلان رئيسة الوزراء البريطانية ماي تأجيل التصويت على مشروع خطتها، وصلت حالة القلق على الصعيد السياسي إلى ذروتها، إذ أعلن رئيس اللجنة الخاصة بأعضاء حزب المحافظين داخل البرلمان البريطاني، المعروفة بلجنة 1922، السير جراهام برادي، أنه تلقى أكثر من 48 خطابًا مكتوبًا من أعضاء حزبه يطالبون بإجراء تصويت على سحب الثقة من تيريزا ماي بشأن قيادتها للحزب، معبرين بذلك عن غضبهم من طريقة إدارتها لمفاوضات خطة خروج بلادهم من الاتحاد الأوروبي.
وقبل إجراء التصويت على سحب الثقة من قيادتها للحزب، وقيادتها للحكومة كنتيجة حتمية، حذّرت ماي من مغبات تلك الخطوة، لأنها "ستؤثر سلبًا على مستقبل البلاد، وستخلق حالة من عدم اليقين لا يمكن للبلاد تحملها"، كما قالت.
ما يعنيه سحب الثقة من ماي، أن كرسي القيادة سيكون خاليًا في الموعد المحدد لإبرام اتفاق مع الاتحاد الأوروبي، أي في 21 كانون الثاني/يناير 2019، إذ إن إجراءات انتخاب رئيس وزراء جديد ستحتاج للمزيد من الوقت.
كما يعني ذلك أن نواب المعارضة المتمثلة في حزب العمال، سيتسلمون ملف المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي، وهي النتيجة التي لن يرضَ عنها حزب المحافظين الحاكم، سواءً الداعمين لماي أو المعارضين لها.
فيما أشارت ماي إلى أن أي خلف لها لن يستطيع تغيير الأساسات التي قام عليها مشروع خطة الخروج من الاتحاد الأوروبي، وبالتالي فهي خطوة لن تؤدي إلا المزيد من الانقسامات.
ربما وجدت وجهة نظر تيريزا ماي صدى عند النواب المحافظين داخل البرلمان، لتنجو ماي بقيادتها، فيجدد ذلك التصويت الثقة في قيادتها، ويحصن منصبها ضد سحب الثقة لمدة عام مقبل على الأقل، بالرغم من أنها كانت على وشك السقوط، نسبة إلى الأصوات الداعمة لها وهي 200 صوت، والأصوات المناهضة لإدارتها وهي 117 صوت، أي أن الانقسام على أشده، وأن خطتها لا تحظى بالموافقة الراسخة.
تكمن المعضلة في أن البرلمان البريطاني شرّع الاستفتاء دون النظر لتداعياته الدستورية إذا ما أقرت نتيجة الخروج من الاتحاد الأوروبي
انتقلت حالة القلق السياسي في بريطانيا إلى توجس داخل الاتحاد الأوروبي، حيث دعا المسؤولين في بروكسل، الساسة في بريطانيا إلى تحمل المسؤولية، وإيجاد حل للخروج من مأزق المفاوضات بشأن الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، حتى أن رئيس المفوضة الأوروبية، جان كلود يونكر، وصل الجدل في بريطانيا بأنه "غامض".
اقرأ/ي أيضًا: الربيع الأوروبي.. بداية لتفكيك القارة العجوز
وداعا يونكر، رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي بأن تعود إليه بخطة واضحة، بعدما طالبت ماي من قادة الاتحاد الأوروبي بالعمل معها من أجل "مراجعة" اتفاق خطة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
شد وجذب وتلكؤ ولغط
الانقسامات الداخلية الطاحنة في بريطانيا بين مؤيد ومعارض للخروج من الاتحاد الأوروبي، ثم إجراء مفاوضات لا تنتهي من أجل الوصول إلى صيغة مشتركة ما بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي، ثم الاختلافات سواء في داخل المجموعة المؤيدة أو المعارضة على صيغة الخروج، سواءً أكان خروجًا سهلًا أم صعبًا، ثم انقسامات نواب المحافظين حول إدارة رئيسة الوزراء تيريزا ماي للمفاوضات مع الاتحاد الأوروبي، ثم الاجتماعات المتلاحقة لقادة الاتحاد الأوروبي الضجرين من خطة بريطانية غامضة، ثم مناورات كلا الطرفين البريطاني والأوروبي للحصول على المزيد من المكاسب؛ كل ذلك يدفع إلى عدة تساؤلات مثل: هل تفاجأ الساسة في بريطانيا بمسؤولية التنسيق مع جانب الاتحاد الأوروبي؟ أم أنهم خدعوا الشعب وأقنعوهم بأنها عملية سهلة، ليس عليهم سوى أن يصوتوا بنعم أم لا خلال الاستفتاء؟
أيضًا هل أن رئيسة الوزراء تيريزا ماي لا تمتلك مهارات تفاوض جيدة؟ أم أن عملية الانفصال عن الاتحاد الأوروبي صعبة، وعلى الجميع المعاناة في الطريق إلى الهدف المنشود؟ أم أن الخروج من الاتحاد الأوروبي غير مفيدة، وعلى البريطانيين إجراء استفتاء ثان لنفس العملية لقياس ما إذا كان هناك الكثيرون أو القليلون الذين غيروا رأيهم، وبالتالي تتأكد ماي من خطواتها في الشهور القليلة المقبلة التي تفصلها عن موعد الخروج الفعلي؟
معضلة دستورية
قبل استفتاء بقاء بريطانيا داخل الاتحاد الأوروبي، أدرك القليلون من نواب البرلمان وعدد أقل من المواطنين، مدى قوة التشابك الإداري والقانوني والاقتصادي بين بلادهم والاتحاد الأوروبي، الذي دام عشرات السنوات، حتى أن بريطانيا فوضت الاتحاد الأوروبي للقيام ببعض المهام مثل المفاوضات التجارية الدولية، أو تقاسمها مثل إدارة الشؤون الداخلية، في الوقت التي تظل فيها بريطانيا ذات سيادة قانونية في المجالات التي تمس المواطنين.
إنطلاقًا من هذا التشابك، فإن عملية الانفصال ستستغرق الكثير من الوقت والجهد، حتى تبدأ بريطانيا في بناء حياة جديدة بعيدًا عن كنف الاتحاد الأوروبي.
تكمن المعضلة هنا في أن البرلمان البريطاني شرّع الاستفتاء دون النظر إلى التداعيات الدستورية إذا ما أقرت نتيجة الاستفتاء بالانفصال. وأضحت المشكلة الأكثر إلحاحًا التي تلاحق البرلمان، هي المتمثلة في كيفية الحفاظ على الحدود سلسة بين أيرلندا الشمالية التابعة لبريطانيا وجمهورية أيرلندا المنضمة للاتحاد الأوروبي، فالانفصال بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي يعرقل العلاقات بينهما على الأصعدة التجارية والاقتصادية والسياسية.
تخبط في صورة ما بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي
بالإضافة إلى تلك المعضلة الدستورية، لم يكن الداعمين لعملية الانفصال يشتركون في الاتفاق على الصورة النهائية له، فمنهم من كان يرى أنه بالخروج من الاتحاد الأوروبي، لن تخرج بريطانيا بالضرورة من السوق الأوروبية الموحدة، ومن من كان يعتقد أن إعلان الخروج من الاتحاد الأوروبي، ليس إلا ورقة ضغط لعقد المزيد من المفاوضات لتنال بريطانيا مزايا أكثر.
لذا فإن مسألة التسويف لم تكن مجرد رفاهية اختلقها الساسة في بريطانيا لكسب مزيد من الوقت، وإنما سوء الفهم هو المحرك الأساسي وراء أزمة دستورية أعمق، تكاد تدفع بالمفاوضات نحو حائط سد.
إذا كانت المعضلة الدستورية شبحًا يطارد البرلمان البريطاني، فلا يمكن إنكار المعلومات الخاطئة التي روج لها قبل إجراء الاستفتاء، منها على سبيل المثال الزعم بأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي يعني ادخار بريطانيا ما يقرب من 350 مليون جنيه إسترليني أسبوعيًا، وأنه يمكن الاستفادة بهذه المبالغ في تمويل عمليات تطوير نظام الخدمات الصحية للمواطنين.
لكن على عكس هذه المعلومة، فإن مكتب مسؤولية الموازنة -مؤسسة استشارية تابعة للحكومة البريطانية مهمتها تقديم توقعات اقتصادة مستقلة عن المالية العامة بهدف إعداد ميزانية الممكلة المتحدة- أكّد أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لن يؤثر إيجابًا على اقتصاد البلاد.
من بين الأخبار الكاذبة التي سيقت قبل عملية الاستفتاء، ما قيل بأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لا يعني خروجها من السوق الأوروبية المشتركة، وهو ما جاء على لسان السياسي البريطاني، دانيال هنان، الذي يعد الأب الروحي لعملية خروج بلاده من الاتحاد الأوروبي. وهو ما يأتي مناقضًا تمامًا لتأكيدات ماي المتكررة بأن خروجها بلادها من الاتحاد الأوروبي يعني الخروج من السوق الأوروبية المشتركة.
المتحمسون لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، روجوا أيضًا لأن العلاقات التجارية مع أوروبا لن تتغير قواعدها الحاكمة، وستبقى السلاسة في انتقال البضائع. غير أن المفاوضات بعد الاستفتاء أثبتت عكس ذلك، لأن دول الاتحاد الأوروبي لن تستطيع عقد صفقات تجارية مع دول خارج الاتحاد الأوروبي بنفس القواعد الحاكمة بين دول الاتحاد.
على ذلك يُطرح تساؤل آخر، مفاده: هل يمكن اعتبار الأخبار والمعلومات الزائفة التي روج لها قبيل عملية الاستفتاء، تزييف لإرادة الشعب، وعليه تصبح نتيجة الاستفتاء غير عادلة؟ وهل يمكن أن يكون قرار المحكمة العليا للاتحاد الأوروبي، قد انبنى على ذلك؟
هل يمكن اعتبار الأخبار والمعلومات الزائفة التي روج لها قبيل عملية الاستفتاء، تزييف لإرادة الشعب، وعليه تصبح نتيجة الاستفتاء غير عادلة؟
على كل حال، فالواقع الآن متمثل في إجراء المفاوضات بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي، خاصة وأنه إذا ما قررت بريطانيا العدول عن قرار الخروج من الاتحاد الأوروبي، فقد يعني ذلك إجراء استفتاء آخر، تجنبًا لانقسامات حادة بين البريطانيين. واستفتاء آخر لن يحمي البلاد من الانقسامات والاستقطابات التي هي واقعة بالفعل على كل حال!
اقرأ/ي أيضًا: