ما إن لفظ أنفاسه الأخيرة، أمس الجمعة، في إحدى مصحات الدار البيضاء، بعد صراع مرير مع المرض، حتى اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي في كامل المغرب والبلاد العربية، بالتعازي والتعبير عن الصدمة.
لم يقتصر الارتباط العميق بمسرح صديقي على جيله المؤسس وعلى الجيل الذي طلع بعده فقط، بل تعداه إلى الجيل الجديد
إعلاميون ومسرحيون وفنانون وكتاب وسياسيون سارعوا إلى استرجاع ذكرياتهم مع عرّاب المسرح المغربي الطيب صديقي (1937- 2016) من خلال الصور التي التقطوها معه، في مناسبات مختلفة، على مدار ستة عقود، منح فيها نفسه وأنفاسه لفنه الأثير، ومن خلال شهادات صبت كلها في الاعتراف له بالريادة في التأسيس لمسرح مغربي/ عربي بتوابلَ مغربية/ عربية لا تحيل إلا عليه.
لم يقتصر هذا الارتباط العميق بمسرح صديقي، والاعتراف بريادته وفرادته، على جيله المؤسس وعلى الجيل الذي طلع بعده فقط، بل تعداه إلى الجيل الجديد الذي ظهر في السنوات القليلة الأخيرة أيضًا، ليس في الفضاء المغربي فقط، بل في الفضاء العربي كله، مما يعنى أن صاحب "الحراز" كان فنانًا عابرًا للأجيال والأوطان، لارتباطه بروح المكان والإنسان، لا بمقولات أيديولجية أملتها سلطة/ مرحلة معينة. كما كان نموذجًا حيًّا للشاب المغربي والعربي الطموح القادم من مدينة داخلية، هي الصويرة، إلى مدينة مركزية، هي الدار البيضاء، حاملًا حلمه بأن يترك أثرًا فنيًا لا يزول، بكل ما يتطلبه الرهان من مكابدات تفرضها المدينة العربية التي تمثل المركز على أبناء الهامش. فكان أن حقق ذلك، وزاد عليه أن مدّ يدَه لنخبة من الشباب المبدع المغمور، ليحقق ذاته، لعل أشهرهم شباب فرقة "ناس الغيوان".
هذه الروح الشعبية العميقة في وجدان صاحب "الفيل والسروايل"، كانت خلفيته الأولى في التوجه إلى مسرح احتفالي يتقصّد الناس في هواجسهم اليومية، ويغرقهم في طقوس فنية تعيد الذات إلى الذات، من غير أن تفصلها عن كونها شريكة في عالم جديد، عليها أن تساهم فيه بمقولات جديدة، لذلك فهو يستحضر شخصيات من الماضي، عبد الرحمن المجذوب، جحا، بديع الزمان الهمذاني، لا لأنها صنعت وعي لحظتها الماضية، وتحولت إلى أيقونة داخلها، بل لقدرتها على تشجيع ظهور وعي جديد في الوقت الحاضر، للوصول إلى "هوية حية ممتدة" في مقابل الهويات النكوصية والتغريبية.
منتصف سبعينيات القرن العشرين كان مفصلًا مهمًا في مسار الطيب صديقي، أكد فيه نزعته المسرحية الاحتفالية
هوس الطيب صديقي بهوية مسرحية عربية أصيلة، الأصالة بما هي فرادة وليست تقليدًا، تزامن مع الشهور الأولى لاستقلال المغرب الأقصى عن فرنسا عام 1956، فكان أن استجاب لدعوة الاتحاد المغربي للشغل عام 1957، إلى تأسيس فرقة مسرحية، ثم أسس فرقة تحمل اسمه، بعد عودته إلى الدار البيضاء عام 1963 قادمًا من العاصمة الرباط، أين باشر تجربة مع فرقة "المعمورة"، وفي عام 1974 أسس فرقة "مسرح الناس" التي لاتزال على قيد العطاء.
منتصف سبعينيات القرن العشرين كان مفصلًا مهمًا في مسار الفقيد، أكد فيه نزعته المسرحية الاحتفالية التي تقوم على الفرجة والنقد والتثقيف في الوقت نفسه، وقد توجت ببيان المسرح الاحتفالي الذي وقعته نخبة من المسرحيين المغاربة، في مقدمتهم عرّاب المسرح الاحتفالي عبد الكريم برشيد، في الملحق الثقافي لجريدة "العلَم" المغربية عام 1976. أين طلعت أعمال مسرحية لصدّيقي في المغرب وقاسم محمد من العراق وقدور النعيمي من الجزائر وعز الدين المدني من تونس، وفرقة الحكواتي من لبنان، توخت خلق زمن عربي ثالث، لا هو بالماضي الذي يسحب الحاضر إليه ويدمغه بمقولاته، ولا هو بالحاضر الذي يُنكر ذاكرته، متقاطعًا مع النزعة الملحمية التي قعّد لها بريخت (1898- 1956).
اقرأ/ي أيضًا: