10-سبتمبر-2024
الفنان المصري الراحل حلمي التوني

الفنان المصري الراحل حلمي التوني (مواقع التواصل/ الترا صوت)

صباح السبت، 7 أيلول/سبتمبر الجاري، غادر عالمنا فنان تشكيلي استثنائي، ورمز من رموز الثقافة المصرية والعربية. غاب الأستاذ حلمي التوني (1934 – 2024) تاركًا خلفه إرثًا فنيًا مميزًا ليس فقط عبر لوحاته الزيتية التي حملت عبق التراث الشعبي، بل أيضًا من خلال أغلفة الكتب التي صممها وأضفت لمسة جمالية فريدة على المكتبة العربية. فالتوني لم يكن مجرد رسام يقتصر دوره على رسم اللوحات فقط، وإنما كان فنانًا ملتزمًا بقضايا أمته، خاصةً القضية الفلسطينية وقضية تحرير المرأة.

ولد الفنان التشكيلي المصري حلمي التوني في مدينة بني سويف لأسرة يرجع أصولها إلى قرية تونا الجبل بمحافظة المنيا عام 1933. ومنذ صغره، أظهر ميلًا فطريًا للرسم. ورغم معارضة أسرته، إلا أنه تمكن من دخول كلية الفنون الجميلة قسم الديكور المسرحي. وأثناء دراسته، بدأ التوني مشواره الفني في عالم التصميم، حيث صمم أول غلاف لرواية "زقاق المدق" لنجيب محفوظ.

سنوات المنفى الاختياري في بيروت

في السنوات الأولى من حكم الرئيس أنور السادات، وقبل حرب السادس من تشرين الأول/ أكتوبر عام 1973، كان هناك غضب بين فئات الشعب المصري من حالة "اللاحرب" و"اللاسلم" التي كانت سائدة آنذاك، وكان حلمي التوني من الذين طالبوا النظام بخوض المعركة التي طال انتظارها، لكنهم قُوبلوا بالملاحقة والسجن، أو، أفضل الأحوال، الفصل من العمل. وهو ما حدث مع حلمي التوني الذي فُصل برفقة آخرين من مؤسسة "دار الهلال"، وضاقت به دور النشر المصرية، وخشي من السجن، فقرر السفر إلى بيروت التي كانت في أزهى فتراتها فنًا وثقافة.

استلهم حلمي التوني التراث الشعبي في أعماله، وتمكن من صياغة أسلوب فني خاص به يجمع بين العمق الفكري والبساطة التعبيرية

وعلى عكس اعتقاده بأن رحلته ستكون قصيرة، امتدت إقامته في لبنان إلى 12 عامًا، واستطاع سريعًا الاندماج في الحياة اللبنانية. وفي عام 1975، تزوج لبنانية من أصول فلسطينية، وهي ابنة المترجم والكاتب الفلسطيني عباس إحسان، وأنجب منها ابنة. وخلال هذه الفترة، تعرف على العديد من الكتّاب والمثقفين اللبنانيين والعرب البارزين. كما وقعت، أثناء إقامته، الحرب الأهلية. ومع ذلك، رفض مغادرة لبنان إلى أن جاء حصار الجيش الإسرائيلي للعاصمة بيروت الذي استمر لما يزيد عن شهرين، وكان حدثًا فارقًا في تاريخ الصراع العربي – الصهيوني.

احتضنت بيروت، التي استقبلته عام 1974، موهبة التوني وشكّلت نقطة انطلاق جديدة لتجربته الفنية المميزة التي ازدهرت فيها، حيث تجاوز عدد أغلفة الكتب التي صممها 3 آلاف غلاف، ما جعله أيقونة في عالم التصميم العربي. كما أسس "دار الفتى العربي" مع نخبة من المبدعين العرب، مثل محيي الدين اللباد وعدلي رزق الله، التي ساهمت في تشكيل أجيال من القراء العرب.

تلميذ الفن الشعبي يؤسس مدرسة خاصة به

وعقب عودته من بيروت، تغيرت نظرة حلمي التوني إلى الفن والطريقة التي كان يتعاطى من خلالها مع الفنون الشعبية. يقول: "كنا جميعًا مبهورين بالفن الغربي ونقيم المعارض الفنية على غراره ونظن أن هذا فقط هو الفن الراقي المبدع، وسينظرون لنا بالإعجاب، وكانوا حقًا ينظرون لنا ولكن بسخرية وهم محقين في ذلك".

لوحة للفنان الراحل حلمي التوني

وأضاف: "كنا نظن أنه بهذا سنصل إلى العالمية، ولكن كان الواقع على عكس ذلك؛ لا وصول للعالمية دون الغرق في المحلية والبحث والغوص في أعماق بيئتنا المصرية والعربية كما فعل نجيب محفوظ". ومن هذا المنطلق، استلهم حلمي التوني التراث الشعبي في أعماله، وتأثر بالعديد من الفنانين على رأسهم محمد سعيد وعبد الهادي الجزار اللذين كان يهديهما اللوحات والمعارض وفاءً لهما لأنهما، على حد وصفه، أول التشكيليين المعجونين بطينة هذه البلد.

وتمكن الراحل، مع الوقت، من صياغة أسلوب فني خاص به، يجمع بين العمق الفكري والبساطة التعبيرية. فلوحاته، التي تتميز بلونيتها الزاهية وموتيفاتها المستوحاة من التراث الشعبي والإسلامي، مثل السمكة والحصان والأسد والشمعة والهدهد؛ تعكس رؤيته الفنية الفريدة. وبدلاً من الانتماء إلى مدرسة تشكيلية محددة، أسس التوني مدرسته الفنية الخاصة التي تتميز بدمج التراث مع الابتكار وبناء عالم بصري فريد، إذ استطاع أن يجد توازنًا بين التراث والحداثة، وبين المعنى والجمال، الأمر الذي جعل منه فنانًا متميزًا في المشهد الفني العربي.

فلسطين قضيته الأولى

لم يكن حلمي التوني مجرد فنان تشكيلي يرسم جماليات الحياة، بل كان صوتًا صارخًا يدافع عن قضية عادلة. وكان دائم التعريف عن نفسه بكونه عروبيًا قوميًا. ففي لوحاته، التي كانت بمثابة وثائق تاريخية لمعاناة الشعب الفلسطيني، استخدم رموزًا عميقة المعنى، مثل الزيتونة والبطيخ والمفتاح، ليعبّر عن هوية الشعب الفلسطيني وتطلعاته. كانت كل لمسة فرشاة لديه بمثابة رسالة أمل وتحدٍ، حيث ربط الفن بالسياسة مستخدمًا إبداعه كسلاح ناعم في مواجهة الظلم والاحتلال.

ولذلك ليس مستغربًا أن آخر ما نشره على صفحته في "فيسبوك" كان لوحة مصحوبة بعبارة: "عيوننا إليك ترحل كل يوم، وهذا أضعف الإيمان".

وكان دائم التعبير عن عمق ارتباطه بالقضية الفلسطينية. فالفنان، بحسه المرهف، يستشعر الألم والمعاناة بشكل أعمق، ويحولها إلى أعمال فنية تلامس القلوب والعقول. وقد كان التوني شاهدًا على معاناة الشعب الفلسطيني، فصور في لوحاته صمود المرأة الفلسطينية، وتطلعات الشباب، وأحلام العودة. ولم يكتفِ برسم المعاناة فقط، بل قدم كذلك رؤيته لحياة أفضل مستخدمًا الألوان الزاهية التي تعكس روح الشعب الفلسطيني المقاومة.

وبصورة عامة، يمكن القول إن لوحات التوني ليست مجرد أعمال فنية جميلة، بل هي وثائق تاريخية تعكس روح العصر، وتؤكد على أهمية دور الفنان في المجتمع أيضًا. فالفن الحقيقي هو الذي يلتزم بقضايا مجتمعه، ويعبر عن همومه وآلامه.

المرأة في أعماله

بدأ اهتمام حلمي التوني بالمرأة عندما طلبت منه الراحلة نوال السعداوي رسم غلاف أول كتاب لها "المرأة هي الأصل"، الذي تم منعه من النشر في مصر، فتوجهت إلى بيروت لنشره، ومن بعده "المرأة والجنس".

كان حلمي التوني رسامًا للمرأة بقدر ما كان رسامًا للحياة، ولا تكاد لوحة من لوحاته تخلو من النساء كما لا وجود فيها لذكر إلا إذا كان طفلًا. يقول عن ذلك ممازحًا: "مقدرش ما أرسمش الستات، حتى لما أحاول أرسم راجل يقلب معايا لست". وهكذا أصبحت المرأة أساس ومحور لوحاته، والنافذة التي ينظر منها إلى العالم، ولعل أكثر ما يميزها العيون النسائية المفتوحة على اتساعها، أو الهادئة الحالمة، أو الباكية كما هو الحال في لوحة "فلسطين تبكي الشهيدة".

لوحة للفنان الراحل حلمي التوني

رسم التوني النساء كعرائس في مسرح الحياة، يؤدين أدوارًا مستوحاة من الأساطير والحكايات الشعبية السحرية، كما شكّلهن بمختلف الأطياف من المرأة الفرعونية كإيزيس ونفرتاري، إلى الفلاحة والبنت العصرية والمرأة الفلسطينية بثوبها المزركش.

لكن خلف هذه الوجوه الجميلة طرح التوني أسئلة عميقة حول هوية المرأة ومستقبلها، إذ نجد في لوحاته أن المرأة تعيش حالة من الانتظار والحلم، وكأنها ترفض الاستسلام لواقع شديد القسوة. ولم يكن هذا الاهتمام بالمرأة مجرد اهتمام فني بجمال الشكل، بل كان انعكاسًا لقناعته بأن مستقبل مصر مرتبط بمستقبل المرأة. ولذلك خاف على مستقبلها الذي كان يصفه بأنه "هو ذاته مستقبل مصر". لقد كان يرى في المرأة رمزًا للأمل والتغيير، وقوة دافعة للتقدم والتطور.

ولعل السبب في هذا الاهتمام بالمرأة يعود إلى رؤيته لها كرمز للحياة والجمال والإبداع. فالمرأة، بالنسبة للتوني، مصدر الإلهام الذي يدفعه إلى خلق أعمال فنية فريدة من نوعها.

صحافي بدرجة فنان

بدأت علاقة حلمي التوني مع الصحافة مبكرًا، حيث عمل وهو طالب في السنة الدراسية الأولى رسامًا في مجلة "الكواكب"، وظل يعمل في دار "الهلال" حتى أصبح مديرًا فنيًا للمؤسسة. وقد استطاع أن يجمع بين الإبداع الفني والمهارة التقنية في مجال التصميم، وكرّس نفسه كأحد الرواد في عالم التصميم الجرافيكي، حيث عمل على تصميم آلاف الأغلفة للكتب والمجلات، أبرزها مجلة "شموع" مع صديقه أحمد بهاء الدين الذي قال للراحل: "راعي الرحمة الثقافية"، فأخذها نبراسًا ولم يتعالى ويبتعد عن الجماهير، وظل طوال حياته راعيًا الرحمة الثقافية.

وربما جعله عمله في الصحافة يبسط من أسلوبه ويقربه إلى الناس، ذلك أن التقرب منهم وتبسيط المعارف وتحبيبهم فيها أساس العمل الصحفي. وقد كانت أعماله تتميز بجماليات عالية ودقة في التنفيذ، حيث استطاع أن يضفي على كل تصميم لمسة شخصية تعكس رؤيته الفنية المميزة. كما ساهم في تطوير الفن الصحفي في مصر والعالم العربي.

الغناء مزاوجًا الرسم

في تصريح لجريدة "الشروق" عام 2015، قال الراحل إنه من بين المصابين بداء الطرب إلى حد القدرة على الغناء. ألهمه سحر الكلمات وإغواء الألحان، فكان للطرب مكانة خاصة في قلبه. فكما كان يردد الجميع كلمات الأغاني المفضلة، كان التوني يستمع إليها ويستلهم منها جماليات بصرية يترجمها إلى لوحات فنية.

وقد تجسد هذا الشغف في معرضه الفريد "المغني حياة الروح"، حيث مزج بين سحر الكلمة وجمال الصورة، واللحن واللون. فقد استوحى لوحاته من كلمات أغاني عمالقة الطرب، مثل محمد عبد الوهاب وأم كلثوم، محولًا كلماتهم إلى مشاهد بصرية ساحرة.

وبهذه اللوحات، أراد التوني أن يذكرنا بكنوز تراثنا الغنائي، وأن يربط بين المتعة السمعية والجمالية البصرية. وكما يقول: "كما يصيح المستمع إلى أغنية جميلة: الله.. كذلك يفعل الناظر إلى منظر جميل، سواء كان هذا المنظر امرأة حسناء أو سحابة في السماء، أو لوحة فنية جميلة".

وقدّم الفنان المصري في هذا المعرض تجربة فنية استثنائية وفريدة من نوعها، حيث استطاع أن يجمع بين الفن التشكيلي والموسيقى، وأن يخلق عالمًا من الجمال والانسجام. وقد أثبت من خلال هذا المعرض أن الفنون ليست مجالات متباعدة، بل يمكن أن تتداخل وتتفاعل مع بعضها البعض لتنتج أعمالًا فنية متكاملة.

وفي الختام، يظل حلمي التوني علامة فارقة في تاريخ الفن التشكيلي العربي، ليس فقط بفضل إبداعه الفني المتميز، ولكن أيضًا لالتزامه العميق بالقضايا الإنسانية والثقافية. ولذلك فإن رحيله يشكل خسارة كبيرة للمشهد الثقافي المصري والعربي، لكن إرثه سيبقى حيًا في كل لوحة وغلاف كتاب صممه، وفي كل قضية ناضل من أجلها.