أيّة مفارقة أجمل من لعبة نستخدم فيها "الحجارة" التي تتدحرج وتُصقَلُ وتُدمَّرْ؟ مادة هي الصلابة والرجم والحيطان والسكون والاختفاء والاختباء حدّ الانفجار أو الاندثار. أيّة حكايات يمكن أن ترويها لنا البنايات المهجورة والمثقوبة والمُهدّمة؟ وأيّة حقيقة سنقف عليها وسط أو على عتبة اللاشيء واللابناء؟
دعونا نتجرد من الصور التي لطالما انعكست داخل أعيننا حول البناء النحتيّ المصقول، ولنحاول النظر عميقا في أعمال النحّات كيرولس. لنحاول بجديّة الإبصار بين الجدران ومن خلال الركام، ربما سنتعرف إلى العالم بطريقة أصدق وربما ستتكشّف لنا تلك الكائنات اللاّمرئيّة وتتحدّث إلينا عن صخب الأمكنة التي تقيم فيها منذ أزمنة غير معروفة.
أيّة حكايات يمكن أن ترويها لنا البنايات المهجورة والمثقوبة والمُهدّمة؟ وأيّة حقيقة سنقف عليها وسط أو على عتبة اللاشيء واللابناء؟
الجميل في فنّ بسام كيرلس أنّه يتعمّد طرح أسئلة عديدة ثم يتبرّأ من الإجابة عنها، فهو يشتغل على الأفكار لا المواد. تنقلب كل موازين النحت التقليديّة التي تعالج ثنائيّة الكتلة والفراغ، عبر ذهابه مباشرة إلى العمل في مكوّنات الفراغ الفلسفيّة فــ"كيرلس هو فنان أفكار، يقول الكاتب فاروق يوسف، لذلك فإنه غالبًا ما يتحاشى تقنيات النحت التقليدية. ميزته أنه يتصرف باعتباره نحاتا لا مُركِّبا. عُرف الفنّان اللبنانيّ بنزعته الصفائية لقد عَرف كيف يستبعد العاطفة التي تنفتح على الكثير من المفاهيم الخاطئة".
اقرأ/ي أيضًا: الفنّان العراقي علي رشيد.. في عتبة البياض وعلى حافة العتمة
ينقلنا كيرلس من خلال "أكوانه" المنحوتة من الفظيع إلى الأفظع ومن المريع إلى الأشد رعبًا. يقدّم لنا حالة الأرواح التي تدمّرها الحروب، لا تختلف كثيرًا عن حال الحجر، نفس التشتّت والضياع، كالجثث والأموات التي تستلقي في كل مكان ولامكان، ورائحة الدمّ والعفن والجيفة منتشرة في الأرجاء، يقول كيرلس: "أحمّل أعمالي أحلام الأطفال المهجرة ومآسي الشعوب المقهورة التي تنزح قوافل قوافل دون أن يكون لها القدرة على الالتفات خلفها، وإن فعلت فلن تجد إلا أطلالًا تبعثرت فيها كل الإنجازات والأحلام. أنا أنحت أبنية كان من المفترض أن تأوي إنسانًا متمدنًا فإذ بها مغاور شاهدة على همجية البشر".
تحكي منحوتات كيرلس عن هندسة المكان/ "المدينة"/ الركام، ذلك الفضاء الفانتازيّ المركّب بالحجارة، وذلك الفضاء كمنتهى ومربط كل الأشياء/ اللاّ أشياء. يستدعينا النحت للنظر في ما تعيشه المدن وهي في مفترق تاريخي عصيب، وهي تمرّ بأحداث متراكبة ومتنافرة. يوقعنا فراغ المكان/ الفجوة في نوع من البلبلة البصريّة والرؤيويّة التي تحذّرنا من أنّ الفاجعة لم تحدث بعد. يقدّم لنا الفنّان صورة تمثّل هواجسنا ومخاوفنا من كلّ تلك الخيبات والآلام التي تختبئ خلف/ في الجدران المنهارة، المسكونة بالفراغ.
مع الاشتغال الاحترافيّ على الدمار والهدم، نجد أيضًا عملًا احترافيًّا للحركة والترصيف والبناء، وكأنها منحوتات "تُساعية" الأبعاد، فتلهث أنفاسنا ونحن نتفادى مع بسّام كيرولس طلقات الرصاص من كلّ تلك الثغرات السوداء. ينحت الفنّان عوالم جديدة نكاية في الحرب وفي المجتمع وفي المحسوس، ويتحدّث عن الأرق المزمن للتفكير في العمل، ذلك العذاب الأبديّ التي تحدّث عنه إميل سيوران ليصف به حالاته المستمرّة في التفكير، يقول "إنّ الأرق وعي مدوّخ قادر على تحويل الفردوس إلى غرفة تعذيب".
تنتمي أعمال كيرلس للإنسان بكل تناقضاته النفسية والاجتماعية والأخلاقية، وتعبّر بوضوح عن التحضر الزائف وعن كل تلك "المسوخ المفرّغة" من إنسانيتها، تلك التي تسكن الأرواح والنفوس والفراغات فينا تماما كالمسوخ الذين أشار إليهم ساراماغو في روايته "العمى" للتعبير عن فاقدي البصر الذين يتصارعون من أجل البقاء. يعطينا النحّات محاولة إبداعيّة لإدراك قيمة البصيرة داخل عالم فسيفسائيّ، ومن ثمة محاولة التخلّص من خوف "المعرفة المطلقة" ومواجهة هواجسنا الغيبيّة بالاندماج في عالم "الفراغ" كليّا. ووفقًا لكيرلس، فإنه و"بدلًا من الحتمية في عالم متعدّد الأكوان يحكمه العنف، يستمد الواقع وجوده من الأفكار والمعلومات والوعي"، أين يتجلى الموت والغريزة والوعي والتوجّس من الآخر المجهول، والتي عبّر عنها الفلاسفة بــ"تراجيكوميديا" (صطلح استعمله إميل سيوران للاستهزاء من واعظي الدين والأخلاق).
الفنّان، أو في صورة "دانتي" الذي كان يتسلّق الجبل شيئًا فشيئًا غير قادر على رؤية الخطايا السبع التي نقشها الملاك الحارس على جبينه، أين "يمثّل نقش الخطايا ومحوها تدريجيّا طقسا ضروريّا لابدّ من إتمامه قبل المعراج السماويّ".
ينحت الفنّان تكوينات و"أكوانًا" ضدّ البنية المحكمة والقوالب الفنيّة الجاهزة. يحتذي بالمقولة الشهيرة للفيلسوف الروماني إ. سيوران "تحت كلّ صيغة ترقد جثّة"، ويصوغ منحوتاته بكثير من التأنّي المريب. يعتبر نفسه عاجزًا عن قول الحقيقة الجوهريّة للأشياء فهو نقطة صغيرة جدًا وسط أشياء كثيرة غامضة ومخيفة، أشياء كونيّة سوداء ولا لونية يترجم بعضها إلى ثقوب فارغة ولانهائيّة، حين يتركنا الحجر مذهولين لنتشتّت على أنقاض النقصان البشريّ. تتشظى فينا ندوب الصورة الانتحاريّة تلك التي مجّدها بودلير في يوميّاته ونيتشه في كتاباته، ويقدّمها لنا كيرولس في رؤية تناقض الواقع وتعريه "كأوضح ما تكون الرؤية، يفكّر ويشكّ، يحسم ويتراجع، ينحاز ويتخلّى، يهجم ويدافع، يمدح ويهجو، يقارع الحجّة بالحجّة، ويتّخذ لنفسه موقعا من كلّ هذا الذي حفل به عصره".
لا يريد كيرولس استضافة (المرجع) – المدينة البناية السكنيّة– ليتمدد على مساحة التكوين النحتي أصلًا لترجمة الإدراك فنيًا، إنها يريد تدمير المحيط نفسه لصالح ولادته الجديدة على تركيبة النحت، لذا فهو يلاحظ أننا نتبادل مع الوجود المرئي المتعين كمًا هائلًا من الإشارات والرموز والشفرات والدلالات والأثر.. إذًا من الممكن أن تكون المنحوتة مؤهلة لتوثيق هذا التبادل الأثري – من الأثر. إنه إقامة لمدينة يوتوبيا مضادة بتعبير ميشيل فوكو حيث الموضع يتسع باتجاه مواضع متعددة، ويكون المكان الذي نحيا فيه متغاير الخواص، رغم أنه ينتزعنا من أنفسنا ويظهر تآكل حياتنا وزمننا. إنه يصنع متاهة حادة الخطوط.
يؤمن بسام كيرولس أنّ طاقة غير محدودة هي التي تسيّر العالم، وأنّ الأحداث المروعة هي استجابة آدميّة لأفكار كونيّة حول الفاجعة
يؤمن كيرولس أنّ طاقة غير محدودة هي التي تسيّر العالم وأنّ الأحداث المروعة هي استجابة آدميّة لأفكار كونيّة حول الفاجعة. يصنع الفنّان صورة واضحة عن نتائج التجرد من الإيمان بالماورائيات، إنّها الطامة الكبرى حين تحل الكوارث وتختفي أساليب التحضر، ستختفي الأقنعة وتظهر غريزة الإنسان فقط للعراء. يكشف لنا التمعن عن قرب معنى "النحت في الأفكار"، فالمنحوتات صُقلت لتُدمّر، لتُبَعْثِر النحت بالنحت.
اقرأ/ي أيضًا: سامي بن عامر.. صخب الإيقاع التجريديّ
ولد كيرولس سنة 1971 في بنتاعل التابعة لجبيل ولا يزال مقيمًا هناك. دَرس الرسم في كلية الفنون بالجامعة اللبنانية. ما بين عامي 1996 و1998 التحق بمشغل الفنان الفرنسي جويل فيشر بباريس لدراسة النحت، ثم انتقل إلى روما وقضى هناك عامين في دراسة الرسم والتصوير. حصل على دبلوم في الخزف سنة 1999 من معهد سولندو. عاد إلى لبنان سنة 2000 ليترأس جمعية الفنانين اللبنانيين للرسم والنحت. يدرّس منذ سنوات بكليّة الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية. شارك في العديد من المتلقيات النحتية العالمية (باريس وإيطاليا) والعربية (سلطنة عُمان) وفي العديد من الورشات النحتية. وله العديد من النصب التذكارية حول بعض الشخصيات التاريخية والأدبية والفكرية، من أهمهم تمثال الأديبة اللبنانية مي زيادة. توجد أعماله النحتية كمقتنيات في العديد من المتاحف والغاليرهات وصالات العرض الدوليّة. أقام معارض شخصيّة آخرها معرض "أكوان" 2019.
اقرأ/ي أيضًا:
إزميل علي الجابري الأخير.. غياب في المنفى
أعطني بناية أعطِك فكرةً عن سكانها