21-فبراير-2017

أكلة الكارانتيكا (مواقع التواصل الاجتماعي)

بغضّ النظر عن بقائها جديرةً باللقب أم لا، تسمّى مدينة وهران، أو وهرن كما تنطق شعبيًا، 500 كيلومتر شرق الجزائر العاصمة، "باريس الثانية" أو "باريس الصّغيرة"، بالنظر إلى نقاط شبه كثيرة بينهما، حيث كانت أكثر المدن الجزائرية استقطابًا للسّياح من القارّات الخمس، لمعاينة شوارعها التي لا تنام وسواحلها وآثارها الفرنسية والإسبانية والتركية ومطاعمها. غير أنها شهدت تراجعاتٍ مؤسفةً جعلت سكانها ومحبّيها يستحضرون أغنية أحمد وهبي، التي أبدع الشاب خالد في إعادتها بملء الحنين: "وهرن.. وهرن.. رحتي خسارة/ هجرو منك ناس خيارة".

تجاوزت الكارنتيكا أن تكون أكلة الفقراء، لتستقطب جميع الشرائح، ولتصبح أكلة تدلّ على هوية وهران لا على طبقة

ولئن باتت المطاعم والفضاءات التي تقدّم الأطباق المحلّية نادرة في المدينة، بالنظر إلى تراجع الفعل السّياحي وهيمنة الرّوح الاستهلاكية، فإن أكلة الكارانتيكا أو الكاران أو القرنطيطة، لا تزال محافظة على محلاتها في الشوارع ومحلّها بين القلوب، بل إنها أول أكلة تتوفر منذ الثامنة صباحًا، وآخر أكلة تنفد في حدود منتصف الليل، "رغم أنها لكسر الجوع وليست لسدّه، كما أنها تؤكل اشتهاءً"، يقول أحد المدمنين عليها.

اقرأ/ي أيضًا: "الدوبارة".. تنافس البيتزا في الجزائر

تكاد الأبحاث الخاصّة بتاريخ الطعام في الفضاء الجزائري، على قلّتها، تجمع على أن أصل التسمية مشتق من الكلمة الإسبانية Calentita أي السّاخن، وفعلًا فقد سمعنا أكثر من واحد من سكان وهران، خاصّة الجيل القديم يسمّيها "الدّافي"، أي الدّافئ. كما أنها إسبانية الاختراع، إذ يعود ذلك إلى أن العثمانيين حاصروا الحامية الإسبانية في حصن المدينة، في القرن الثامن عشر، فلم يجد الطباخون، أمام نفاد المؤونة، إلا الحمّص فأبدعوا منه هذه الأكلة التي اخترقت المدينة بعد فكّ الحصار، ووصل إشعاعها إلى الجزائر العاصمة غربًا، ومدينة فاس المغربية غربًا، مع تغييراتٍ في الاسم والشكل والنكهة.

تتكوّن الكارانتيكا، من طحين الحمّص الممزوج بالماء والبيض المخفوق والزيت والكمّون، يترك الخليط فترة ليتماسك، ثم يوضع في الفرن لينضج، ويؤكل ساخنًا إمّا في شكل مربّعات، وإمّا يوضع في الخبز في شكل ساندويتش. ولئن كان المنشأ وليد الحاجة في الحصن الإسباني، حتى باتت تسمّى أكلة "القلّيل" أي الفقير، فقد تجاوزت الكارنتيكا هذا المقام، لتستقطب جميع الشرائح، بما فيها البرجوازية منها، لتصبح أكلة تدلّ على هوية لا على طبقة.

يقول الممثل المسرحي أمين رارة لـ"ألترا صوت" إنه يفضّل أن يأكلها حتى وإن توفّر له غيرها، "فأنا أترك أكل البيت أحيانًا، وأخرج إلى محلّ الكاران، أو أكون في الشغل، فأقصده عوض الذهاب إلى البيت أو المطعم رغم قربهما". يضيف: "أجمل ما فيها أنها تؤكل في الأوقات كلها، ويكفي القليل منها للشعور بالشّبع، كما أن خلوّها من التوابل الكثيرة يجعل أكلها بلا مضاعفات على مستوى المعدة".

في الأثناء، دخلت إسبانية عاملة في القنصلية الإسبانية في وهران وطلبت كمية منها، سألناها عن علاقتها بالأكلة فقالت: "يسمّي الجزائريون الأكل ملحًا، فأنت إذا أكلت عند أحدهم أو معه صار بينك وبينه ملح، ومن النذالة خيانته، وتعدّ الكارانتيكا الملح المشترك بين الإسبان الذين اخترعوها والجزائريين الذين احتضنوها".

اقرأ/ي أيضًا: البطيخ الأحمر في الجزائر.. سطوة الفاكهة

تحافظ أكلة الكارانتيكا على محلاتها في الشوارع ومحلّها بين القلوب في وهران الجزائرية رغم تراجع السياحة في هذه المدينة

لا يقتصر إعداد الكارانتيكا على المحلّات فقط، بل تصنع في البيوت أيضًا، غير أنّ شكلها في البيت يختلف عنه في المحل. تقول أم نذير: "أعدّها بمعدل مرّة في الأسبوع، مرّة بطلب من الأولاد لأنهم يشتهونها، ومرّة عند افتقادي للوازم طعام آخر، فهي غير مكلّفة، ومرّة عند تعبي، فهي غير مرهقة". تضيف: "رغم أنها توصف بكونها أكلة الفقراء، إلا أنها من الأكلات النادرة التي لا يُعدّ تقديمها للضيف تقصيرًا، إنها أكلة مباركة فعلًا".

في حي "سان بيار" العريق بالقرب من مخبزة أراغون الشهيرة، وسط مدينة وهران، يعكف العم احميدة على إعداد الكاران، بروح من يُعدّ وجبة لأعزّ الناس عليه. "أعتقد أن حبّ الناس للكارانتيكا التي أعدّها راجع إلى أنني أتخيّل في كلّ مرة شخصًا أحبه وأنوي الطبق له، ممّا يجعلني أتفانى في ذلك، ولم يحدث أن مددت يدي في الحالات التي يكون فيها مزاجي سيّئًا". ويقول: "لدي منافسون كثر في وهران وفي غيرها، غير أنني أنساهم ولا أتذكّر إلا زبوني، إذ أفقد الاستمتاع بيومي إن هو خرج مستاءً من عندي".

كان المحلّ الصّغير مكتظًا بعشّاق الكاران أو الكارانتيكا، وكان منهم الرّياضيون والفنّانون والمهندسون والجامعيون والتجار أصحاب المحلات الفخمة والمعلمات والطبيبات. يقول الموسيقي محمد زامي: "فرقتنا التحوّلات والاعتبارات الكثيرة ووحدتنا الكارانتيكا". ويختم ضاحكًا: "أرى أنه لم يبق أمر يوحد الجزائريين مثل الكارانتيكا والنشيد الوطني".

الممثل أمين رارة عاشق الكارانتيكا (الترا صوت)

اقرأ/ي أيضًا:

المطبخ المغربي.. 5 من أشهى الأكلات الشعبية

"الدَّكْوَة".. زينة المائدة السودانية