إذا نظرنا نحو أعمال الكاتب والمخرج الإيطالي المبدع "جيوزبي تورنتوري"، بعين أبعد من فيلمه المشهور مالينا "2000"، الذي يظهر كأول نتيجة في بحثك عبر غوغل باللغة العربية عن فيلم إيطالي، وهو فيلم يمكن اعتباره استعراضيًا لمن أراد أن يراه كذلك، بحيث صنعت منه حديثًا نسخة عربية رديئة المستوى والسيناريو والإخراج، ومنع عرضها لفترة في مصر ثم عادت للانتشار وهو فيلم "حلاوة روح".
نُسخ فيلم تورنتوري الشهير مالينا بشكل سيئ ليخرج بالعربية فيلم حلاوة روح
من ناحية أخرى يمكنك اعتباره فيلمًا جيدًا جدًا -الفيلم الأصلي مالينا- في وصف واقع حقيقي متكرر لحالات كثيرة مشابهة عن كيفية تعامل المجتمع ككل من رجال ونساء مع امرأة تمتلك الجمال والاختلاف حين تفقد زوجها في الحرب -أو لأي سبب كان- فتصبح متاحة في نظر النصف الأول من المجتمع، وخطرًا يجب القضاء عليه لدى النصف الآخر.
وحتى لا نذهب بعيدًا، فإن تورنتوري يعاود إبهارنا بفيلم آخر جديد من كتابته وإخراجه كذلك، تم إنتاجه عام 2006، وقد حاز على الكثير من الجوائز المحلية والأجنبية وهو فيلم "المرأة المجهولة"، قصة الفيلم قائمة على الاسترجاع والتناوب بين الماضي والحاضر عبر روابط نفسية في ذاكرة البطلة، وهي امرأة أوكرانية الأصل هربت من ماضٍ وحياة مشوشة بالتهديد والاستغلال من قبل متاجر سادي بأجساد النساء وأطفالهن.
تهرب بطلتنا أرينا نحو إيطاليا، حيث تواجه فيها صعوبات المعيشة -كحال أي غريب- يجد صعوبة في الحصول على عمل ومسكن على اعتبار أنه غير موثوق به كأجنبي، إلا أنها في النهاية تنجح في الحصول على عمل عند أسرة مكونة من أب وأم وطفلة وحيدة، فتتناوب بعدها أحداث الفيلم بين حياتها معهم وحياتها في الماضي والتغيرات التي تطرأ على إدراك المُشاهد لحياة وشخصية تلك المرأة المجهولة، وسبب اختيارها للعمل عند تلك العائلة.
اقرأ/ي أيضًا: رصاص بلا رصاص: التجربة البصرية المستقلة
مما يشهد للفيلم واقعيته العالية وطريقة الوصف الدقيقة للروابط النفسية لدى الإنسان وكيف يمكن لشيء بسيط يمر بك خلال حياتك العادية أن يعيدك إلى الشعور بالجحيم أو بالجنة كما عشته فعلًا، وما يمكن أن تحدثه ذاكرة حواسنا من سمع أو شم أو تذوق.
يرتكز تورنتوري على تقنية الإبهار المستمر المرافق لحبكاته المتتالية على طول أفلامه
لقد كانت هذه المرأة -التي تجاوزت الأربعين- تحافظ على شراء الكثير من علب الفراولة رغم فقرها واضطرارها في بعض الاحيان للتفتيش في المزابل والقمامة للحصول على ما يمكن أكله، إلا أن طعم الفراولة يذكرها بالحقبة التي كان لا يزال فيها الأمل والحلم ممكنًا ويافعًا كما كانت مع حبيبها الشاب الفقير الذي كان ينتقي لها حبات الفراولة من بين الخضراوات العفنة ويقدمها لها على ساقٍ ونصف أمام جميع العمّال.
كذلك تعرضها لأي عنف أو توبيخ يعيدها سريعًا للمرحلة التي صارت فيها عبدةً لدى تاجر العاهرات ذاك، والذي كان يغتصبها وهي مقيدة ويقدمها للرجال بهذه الصورة وبصور أخرى شتى حسب الطلب.
يترك تورنتوري المشاهد بمواجهة أبطال أعماله بشكل مباشر غارق في موضوعيته الحرة
من جميل الفيلم كذلك أنه يترك للمُشاهد فرصة التعرف على الشخصية بطريقة موضوعية وحرة، فيأتي ويذهب بالكثير من التوقعات التي يصيب في بعضها ويخطئ في كثير، فتلك المرأة ليست جيدة تمامًا كعرضها الأول كما أنها ليست سيئة تمامًا، لكنه سيريك أن الظروف الصعبة وسيطرة الأشخاص الخطأ على حياتك ستودي بكل شيء حتى أخلاقك نحو الهلاك.
احتوى الفيلم على حوارات كثيرة، ذات مستوى عالٍ في الوصف والإيجاز، ذات نكهة واقعية مؤلمة وجميلة في ذات الوقت، تختصر عليك الكثير لتقوله وتناقشه وهذا أمر صعب على كاتب إن لم يكن محترفًا مثل تورنتوري، وسأورد مثالًا على ذلك، وهو حوارٌ دار بين المرأة والطفلة قبل فراقهم:
- ألن نلتقِ مجددًا؟
- بلى، حين تكبرين وتتعلمين الكتابة سنتبادل الكثير من الرسائل، وستكتبين لي عن شعورك وأنت سيدة يافعة.
- ظننتك جربت هذا الأمر، لماذا أكتب لك عنه؟
- لقد كانت حياتي مشوشة تماما، حتى أنني لا أذكر أني شعرت به يومًا.
- إذن ما أخبرتني به عن الحياة كان خطأً؟
- بعضه صحيح وبعضه كذب.
-أنتم الكبار لا يمكن الوثوق بكم أبدًا.
اقرأ/ي أيضًا: جوليان مور: مخيف أن تموت أحاسيسنا
يؤول الفيلم في آخره إلى نهاية غير متوقعة، ذات وقع شديد وموجع في وقعها على نفس المشاهد لحياة إنسانة كاملة عُرضت عليه بجل تفاصيلها، يشعر بالنهاية أنها ذهبت هباءً، والأمل الوحيد الذي كانت تفتش عنه هو مجرد كذبة، إلا أن الكاتب يعاود ويبث الأمل في مشهد لقاء بعد سنوات فور خروج المرأة المجهولة من السجن حين استقبلتها عند الباب ذات الطفلة التي ربتها وقد أصبحت شابة جميلة.
كلما شاهدت فيلمًا لتورنتوري شعرت بالجوع للمزيد من أعماله
إلا أنني وجدت ذاك المشهد في ذاته -دون غيره- غير واقعي لطول فترة الغياب بينهم، وتغليب الظن على وجوب تغير المشاعر والمواقف خلال هذا البعد ضمن إطار الطبيعة البشرية المعروفة، إضافة إلى الفارق العظيم بين مستوى وحياة الفتاة -المتوقعة بجلّ صخبها وملهياتها- ومستوى المرأة ذات السمعة والحياة المتدهورة، رغم التأثير الكبير الذي تركته تلك المرأة في حياة الفتاة الصغيرة والذي أحدث فارقًا على قصر الفترة التي مكثتها معها، إلا أنني أتصور مدى طبيعة الإنسان القاسية وقدرته على النسيان والبرود مع شخص كان محطة وجيزة في حياته ثم انتهى.
رغم ذلك فإن الفيلم يبقى تحفة رائعة يشهد بها للمخرج والكاتب تورنتوري، الذي كلما شاهدت له فيلمًا شعرت بالجوع إلى المزيد والمزيد.
اقرأ/ي أيضًا:
"فيلم كتير كبير".. إلى الأوسكار
هل لامست السينما المغربية خطوط التابوهات؟