في كتابه"فن الشعر"، يقارب أرسطو الكوميديا من حيث طبيعتها الفنية كمحاكاة لأفعال البشر في الحياة اليومية، وبالتحديد لرذائلهم ونواقصهم، التي قد يرتكبونها تحت تأثير الغفلة أو قلة التبصر أو ضعف الإرادة. ففعل تدليس تاجر محترف على إنسان بسيط الذي يتم تجسيده أو محاكاته من قبل الممثلين على خشبة المسرح أو شاشة التلفاز، لا يمكن أن يشكل موضوعًا كوميديًا، كون القبح المرصود هنا مصدرًا لإحداث الألم في نفس المشاهد. فالأصل في الكوميديا ليس إظهار القبح على إطلاقه، إنما إظهاره في علاقته مع المفارقة المولدة للضحك. لكي ينقلب المشهد السابق إلى كوميديا، ليس علينا سوى القبض على التاجر في مفارقاته السلوكية، كأن نراه مثلًا متشددًا في دعوته للتقوى والصلاح والمواظبة على العبادات، فيما تعجز إرادته الضعيفة عن كبح سلوكه اللأخلاقي في الغش والتدليس.
ذهب صنّاع مسلسل "مَخرج 7"، إلى محاولة تغيير القناعات الشعبية في الطبيعة العدوانية الإسرائيلية، التي تحجبها غشاوة الصراع
يبدو العمل الكوميدي على السطح بريئًا لا هم له أو مهمة تعلو على خلق السرور والمتعة في قلوب مشاهديه أو سامعيه، أما في العمق فإن العمل الكوميدي لا يضحكنا ويسلينا بقصد تطهيرنا من مشاعر الحمق أو ضعف الإراداة التي قد تورطنا فيها يومًا وحسب، وإنما بقصد هدف آخر، تحريضنا على تلك الأوضاع الشاذة التي أثارت ضحكنا، إما بقصد دفعنا لتغيير قناعتنا حولها أو دفعنا للقيام بفعل لتغيير آثارها الضارة علينا.
اقرأ/ي أيضًا: MBC في رمضان... شاشة الذباب
في الكوميديا التلفزيونية "مَخرج 7"، التي قامت شبكة MBC السعودية بإنتاجها، وفي حلقته الثالثة تحديدًا، أصر القائمون على العمل أن تحضر الكوميديا وتغيب البراءة. ذلك أنهم لم يتوسلوا الضحك ليتمكنوا من تغيير قناعة الناس في العالم العربي، كما المجتمع السعودي، إزاء عدوانية الدولة الإسرائيلية، بقصد تبرير سلوكهم التطبيعي مع تلك الدولة والقائمين عليها، بل ذهبوا إلى أبعد منك، في محاولة متعمدة لتغيير القناعات الشعبية في الطبيعة العدوانية الإسرائيلية، التي تحجبها غشاوة الصراع العربي الإسرائيلي معه. فأن تتقصد الكوميديا السوداء جعل الفلسطيني سبب بلاء العرب، مقابل تحول الإسرائيلي سببًا لسعادتهم، أمر يتجاوز قدرة الموقف الكوميدي على جرنا إلى الضحك عبر المفارقة واللامتوقع، لينتقل إلى حيز تحريضنا على السلوك الفلسطيني المتمسك بتوريط العرب في صراعه الخاص واللامجدي مع الإسرائيلي الكلي القوة والنفوذ والسطوة.
تحتوي مشاهد الأب دوخي (ناصر القصبي) وهو يعايش حالة من الخوف الهستيري، جراء اكتشافه لعلاقة الصداقة الافتراضية التي جمعت بين ابنه الصغير زياد والطفل الإسرائيلي عزرا، عبر تشاركهم في إحدى الالعاب الإلكترونية في الشبكة الافتراضية على الكثير من الضحك. فالضحك هنا مرده إلى حمق الأب الذي يصر على مضاعفة مخاوفه دون مبرر. في الظاهر يطلق حمق الأب، سلسلة طويلة من حماقات الجد جبر (راشد الشمراني). ففي الوقت الذي يذكره الأب بالعداوة المستحكمة بين العرب والإسرائيليين، يرد عليه الجد: "إسرائيلي، إسرائيلي! الإسرائيليون بشر".
تكمن المفارقة المضحكة هنا في أن الإجابة التي ساقها الجد لا تمت بصلة لسؤال الأب، فالسؤال بواد والجواب بواد آخر.
إذا كان تعريف الشمراني لمفهوم العداوة، الذي يصر فيه على المطابقة بين نكران الجميل والعداوة، موقفًا كوميديًا، ذلك أنه يقوم على مبدأ الخلط وسوء الفهم لتوظيفات مفهوم العداوة في الحقلين الاجتماعي والسياسي وكأنهما من طبيعة واحدة، فإذًا أين هو سوء النية المتأتي من وسم الشمراني للفلسطيني بنكران الجميل ومن ثم بالعداوة، ما دام الأمر لا يتعدى حيز الحمق وسوء الفهم والضحك؟
من الحمق إلى التضليل فالتحريض، تلك هي خطة الشمراني ومن يقف وراء فكرة الحلقة الخاصة بالتهكم على الفلسطيني في مسلسل "مَخرج 7"
من الحمق إلى التضليل فالتحريض، تلك هي خطة الشمراني ومن يقف وراء فكرة الحلقة الخاصة بالتهكم على الفلسطيني. ففي اللحظة التي يتم فيها انتزاع الضحك منا عبر مفارقة العداوة ونكران الجميل، يتم تركيز انتباهنا على عدوانية الفلسطيني، التي تتفوّق في آثارها على العدوانية الإسرائيلية. ذلك أن الإنسان يتفهم مقدار الأذى الذي قد يصيبه من عدو معروف وظاهر، إلا أنه لا يتسامح ولا يتفهم حالة نكران الجميل والعداوة والحقد المتأتية من أناس يحسبهم أصدقاء، فإذا به يصطدم بعداوتهم وحقدهم عليه.
اقرأ/ي أيضًا: مسلسل "أم هارون".. مناعة القطيع والترويج للتطبيع
إذا كان الشمراني الشرير لا يقنعنا بما يهذي به عن العلاقة المتوهمة بين العداوة ونكران الجميل، فإن القصبي الطيب يصيبنا تشريحه العميق عن نفاق الفلسطيني في مقتل. ففي حديث القصبي عن آدمية الفلسطيني لا يتوخى الرجل الكشف عن طبيعة السلوك الكوميدي الذي يخترق ممارسة رجل الشارع الفلسطيني العام قبل عام النكبة، في مقاومته للمشروع الاحتلالي من جهة، والتسليم بوجوده عبر القبول ببيع أرضه للإسرائيلي.
غاية ما يسعى إليه القصبي ليس الضحك على الفلسطيني عبر المفارقة في سلوكه من الإسرائيلي، بل تلميحه إلى النفاق الذي يعتري سلوكه، فحيث يدعي الفلسطيني مقاومته لا يخجل من التطبيع مع الإسرائيلي. يحتال ويطبع فيما هو يستنكر على العرب الآخرين التطبيع، تحت ظروف الحاجة الملحة للبحث عن حليف قادر للدفاع عن أمنهم القومي.
تنطوي كوميديا القصبي على نوع غريب عجيب من الغضب السعودي ضد الفلسطينيين، ففيما هو غضب من طبيعة حكومية ودبلوماسية موجه من قيادة شعب إلى آخر، يصر القائمون على العمل أن يكون موجه إلى عموم الشعب الفلسطيني. وفيما يتراءى لأصحابه أنه محق، يعجز المروجون له عن تبريره وتسويقه على المستوى الشعبي السعودي. فما سر هذ الغضب السعودي الذي يستقوي بالكوميديا والضحك، ليخفي عجزه عن خوض المعركة السياسية والإعلامية التي يعتقد بصوابيتها؟
يكمن سر الغضب السعودي ضد الفلسطينيين، في رغبة محمد بن سلمان العارمة بالاستعانة بالطرف الإسرائيلي، في صراعه السياسي مع الطرف الإيراني على الزعامة والنفوذ في العالمين العربي والإسلامي. فبدلًا من أن يستقوي الأمير بالفلسطينيين لعقد مثل هذا الحلف، عبر إصراره على رضوخ الإسرائيليين للقبول بالحقوق الفلسطينية، نراه يستعين بالإسرائيلين عليهم، عبر تكالبه لتسويق صفقة القرن لديهم بأي ثمن كان.
كيف غاب عن ناصر القصبي الحجم الهائل من الفكاهة في سلوك ابن سلمان، الذي كلما أمر بأمر انقلب إلى مصيبة
كان على القصبي وفريق عمله أن يوفروا على أنفسهم عناء البحث عن المواقف الكوميدية خارج حدود المملكة، فكل ما في سلوك ولي العهد مستوف لكل عناصرالموقف الكوميدي. فمن حرص الأمير على الظهور بمظهر القائد العصري، إلى انزلاقه للظهور بمظهر القاتل الدموي المسلح بمنشار بدائي، ومن استثماره لمليارات الدولارات على التسلح من أجل حماية مملكته من كل أعداء العالم، إلى فشله في حماية نفسه من نيران جماعة صغيرة تعتصم بالجبال والأدعية.
اقرأ/ي أيضًا: الدراما الخليجية في السنوات الأخيرة.. مسلسلات لصناعة تاريخ آخر
كيف غاب عن القصبي الحجم الهائل من الفكاهة في سلوك الأمير، الذي كلما أمر بأمر انقلب إلى مصيبة، وكلما خطّط لحدث جلل خرج عن مساره المنطقي إلى متاهة اللامتوقع واللامعقول، وكلما هم بمأثرة انقلبت إلى نقيصة تدعو للضحك المرير؟
اقرأ/ي أيضًا:
بعد مسلسل التطبيع السياسي مع إسرائيل.. السينما تدخل على الخط