حين يضع المتضامن نفسه داخل دائرة الضوء فإن صورته الشخصية تستفيد أكثر مما يفيد الضحايا بتضامنه. وعلى خلفية الزلزال الأخير ثمة كثيرون فعلوا ذلك بطريقة تسيء للتضامن والضحايا معًا.
صدّق بعض الناس أنهم مهمون وقادرون على خلق تغيير اجتماعي نتيجة خلطهم الجنونيّ بين الواقع والافتراضي. وبهذا الخلط العجيب وقفوا في المنصات الإلكترونية وهم يضعون أنفسهم في المقدمة، دون اكتراث منهم بأن الحالات الإنسانية الاستثنائية تتطلّب شيئًا من نكران الذات، فكثير من المتضامنين الذي يشوشون المشهد ليسوا ممن فقد أهلًا وأصدقاء، ولا ممن تكبدوا فقدان المنازل وممتلكاتهم، ولن يذوقوا فظاعة الصدمة النفسية التي سيعيشها الناجون وأهلهم.
كان المكلومون، الذين يمتلكون أهلًا وأحباء تضرروا أو قضوا تحت الأنقاض، يعطون للمأساة وجهها الحقيقي بصدق ألمهم. ويعلّموننا أن المأساة تمتد إلى خارج الخريطة التي حدثت فيها لأن شعبنا في شتات
في مقابل هؤلاء كان المكلومون، الذين يمتلكون أهلًا وأحباء تضرروا أو قضوا تحت الأنقاض، يعطون للمأساة وجهها الحقيقي بصدق ألمهم. ويعلّموننا أن المأساة تمتد إلى خارج الخريطة التي حدثت فيها لأن شعبنا في شتات. وأضافوا الكارثة كفصل من التراجيديا السورية الكبرى، من خلال قصص الضحايا الذين سبق وأن خسروا أسباب حياتهم في الحرب فلجأوا إلى تركيا أو إلى الشمال السوري.
وبالمثل فعل السوريون الذين في مناطق النظام، إذ قدموا صورة كاشفة تتصل بالمأساة الكبرى حين وضعوا أمامنا فداحة اللامبالاة بالمدنيين من قبل النظام، هذا غير قصص السطو والاستيلاء على المعونات منذ وصولها.
ما نتج عن زلزال بهذا الحجم لا يُحل بأسبوع أو أسبوعين من الحملات التضامنية، فكميات الطعام والدواء ستنفد، كما أن البيوت ستظل ركامًا، وسوف تستمر تبعات الكارثة ما لم يتحول التضامن إلى عملية متواصلة، تعمل على مد الضحايا بكل ما يحتاجون ماديًا ومعنويًا.
ينسى المتحمسون كثيرًا من هذه التفاصيل، ويجدون الأولوية في تخفيف شعورهم الجماعي بالذنب، فالزلزال أيقظ في السوريين شعورهم بالصدمة مجددًا، فعادوا إلى أول عهد اللجوء ليشعروا بأنهم خذلوا أبناء جلدتهم.
ومع أن هذه النقطة بحاجة الى جهود شخصية من الجميع من أجل التجاوز، أو الحد، من أثر الصدمة النفسية الناتجة عن الحرب والتهجير، عبر الخضوع للعلاج النفسي وعبر التصميم الشخصي على استرداد الذات. وهذا من شأنه أن يساهم بتنقية وعي كلٍّ منا بأحاسيسه الشخصية، وبطريقة تفاعلها مع العالم، لأننا، والحال هذه، ماضون إلى أن نُحوّل الخوف والقلق والغضب.. ثقافة جديدة تنافس ثقافة الانقسام والتشظي القائمة أصلًا.
حين تجد كروب العقد الماضي في كارثة الزلزال فرصةً للظهور مجددًا، فإن هذا إنذار لنا جميعًا لتغيير النفسية القائمة (على الأقل أن يبدأ لدى سوريي الخارج لتوافر الإمكانات) وتحويل شعور الذنب المرضيّ إلى ارتباط تضامنيّ عقليّ وعاطفيّ، قائم على أساس من الوعي الفكري والحقوقي والإنساني للمأساة السورية ككل.
الصدمة النفسية التي يتشاركها الجميع حولت المناخ السوري العام إلى مناحة. هذا مفهوم. لا شك أنها وسيلة تفريغ. من يَنُحْ يرتحْ. من يندبْ يهدأ. لكنّ الفرق الحاسم هنا، مع السلامة النفسية، أن حزنَ الأشخاص المتعافين هو حزن فعليّ على الضحايا، بينما حزن المصدومين والمكروبين فليس سوى حزن على أنفسهم. ولهذا سيقوم أصحاب هذا الاتجاه بارتكاب أخطاء من قبيل وضع الشخصيّ قبل العام، وبمس مشاعر الضحايا عند الحديث عما قدّموا، أو عبر تحركهم انطلاقًا من عواطف مشوشة وكأنهم قابعون تحت الأنقاض، فيطغى التضامن معهم على التضامن مع من تمزقوا فعلًا تحت أنقاض المنازل.
أكثر ما نخشاه هو أن تغدو المناحة هي التضامن السوري الوحيد.
كل ما يملكه الضحايا هو التضامن بين بعضهم البعض. وهو الوسيلة القادرة على ردم الشروخ النفسية بين السوريين إثر الحرب الأهلية والتقاتل الطائفي فعلًا في وقتنا الحالي. ولهذا فالمسيء في استعمال هذا التضامن مسيء للمستقبل السوري المحلوم، ولكل فرص إعادة بناء الهوية.