25-يوليو-2024
أولمبياد برلين

أولمبياد برلين 1936

" نريد العمل من أجل التوصل إلى هدنة أولمبية، وأعتقد أن هذه فرصة سأحاول فيها إشراك العديد من شركائنا"، ورد هذا التصريح على لسان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قبل بضعة أشهر من الآن، حينما أشار إلى رغبته في تحقيق "هدنة أولمبية " تقف بموجبها جميع الأعمال القتالية عبر العالم، وذلك خلال فترة الألعاب التي ستحتضنها باريس في الفترة الممتدة بين 26 تموز/يوليو 2024 و 4 أيلول/سبتمبر2024.

وفي ظل حرب إبادة جماعية تشن على قطاع غزة منذ قرابة السنة، وقتال روسي أوكراني في قلب القارة العجوز، تأتي دورة باريس للألعاب الأولمبية هذه السنة في سياق عالمي هو الأكثر تفجرًا بالثلاثين سنة الأخيرة، وبالتحديد منذ دورة برشلونة 1992 التي كانت شاهدة على إعادة إحياء مبدأ "الهدنة الأولمبية".

مشاهد اقتتال هنا وهناك، وإن فرقتها الأماكن، فإن انعكاساتها على الحياة اليومية للأفراد لم تفرقها كثيرًا، بل طالت جميع الأنشطة والمتطلبات الحياتية للأشخاص، سواء الاقتصادي منها أو الاجتماعي أو حتى الأقل من ذلك ضرورة مثل الرياضة، والتي أصبحت هي الأخرى رهينة الأوضاع السياسية، فقبل ساعات من انطلاق الحدث الرياضي الأضخم عبر العالم، تجد الجماهير الرياضية نفسها أمام وابل من الأخبار اليومية التي تطالعها حول مفاوضات الهدنة، الدول المقاطعة، وغيرها من الأمور السياسية أكثر حتى من أخبار الرياضيين والرياضات في حد ذاتها، إذن فهل فعلاً هذه الدورة مختلفة عن غيرها سياسيًا؟ وهل فعلاً الألعاب الأولمبية محصنة من السياسة وتداعياتها؟

بين الهدنة والحرب

في العرف الأولمبي لا يستوي مسمى " الهدنة " من حقبة زمنية لأخرى، فلكل حرب هدنة، ولكل هدنة حرب، إن كان على مستوى الاقتتال والأعمال العدائية، وهو متمثل في إقرار السلم وبالتالي تراجع البنادق والمعسكرات إلى ما وراء خط المعركة، أو على المستوى الدبلوماسي، والمتمثل في تراجع منسوب الشعارات السياسية والتلميحات العدائية خلف خط السباق الرياضي البحت.

وسط كل هذا تختلف المعايير الأولمبية من زمن لآخر حسب نوعية حكامها، فهنا "بالحقبة الكلاسيكية للألعاب" تبرز مجموعة من القيم يسميها الرياضيون بالمبادئ الأولمبية المضادة للسياسة، للعديد من الأسباب والتي تأتي في مقدمتها استحالة أن يشوب " اللاعدالة " علاقات معاملاتها، لأنه بكل بساطة نوعية العلاقات بمثل هذه الأنشطة الرياضية أرفع من أن تخضع للحسابات السياسية الضيقة، ومن هنا يمكننا أن نجد وضع مماثل بالألعاب الأولمبية التقليدية، بين الحكام والفاعلين السياسيين من جهة والرياضيين من جهة أخرى.

بإلقاء نظرة بسيطة على تاريخ الألعاب الأولمبية الكلاسيكية أو التقليدية، سنجد حصيلة ترصد مدى الدور الكبير الذي اضطلع به الحكام والفاعلين السياسيين في تطوير الألعاب، والنأي بها عن الصراعات والألاعيب السياسية.

فبإلقاء نظرة بسيطة على تاريخ الألعاب الأولمبية الكلاسيكية أو التقليدية، سنجد حصيلة ترصد مدى الدور الكبير الذي اضطلع به الحكام والفاعلين السياسيين في تطوير الألعاب، والنأي بها عن الصراعات والألاعيب السياسية، فمنذ لحظة تأسيسها الأولى باليونان القديمة سنة 776 ق.م، كانت الإرادة السياسية المتمثلة حينها " بزيوس " وابنه " هيراكليس" تصبو نحو تكريس جملة من القيم الأخلاقية والمبادئ الإنسانية على المنافسات الرياضية، من أجل المحافظة على نزاهة الرهان الرياضي، والحيلولة دون تأثره بالمجريات السياسية.

وعلى مستوى أكثر من ذلك، كان المطمح الرئيسي حينها هو أن تشع تلك المبادئ الرياضية على القطاعات الأخرى السياسية والاجتماعية، والمساهمة في إرساء قيم المنافسة الشريفة والعدل بباقي المجالات، وذلك بغية تشجيع إقامة مجتمع يسوده السلام ويُعنَى بالمحافظة على كرامة الإنسان، وهو ما تم التوصل إليه بالفعل في وقت وجيز من عمر المنافسات عبر إقرار أعظم تقليد أولمبي المسمى "إكيتشيريا" أو الهدنة الأولمبية، والذي سيشكل فيما بعد المبدأ المقدس الذي تسند إليه الألعاب الأولمبية، وهو ينص باختصار على تأجيل جميع النزاعات بين دول المدن المشاركة حتى انتهاء فترة الألعاب، وطبق هذا المبدأ حتى انقطاع الألعاب اليونانية القديمة.

من إرث "الإيكيتشيريا" إلى واقع أولمبي مسيّس

" إن هذه المبادئ الأولمبية -بما في ذلك الهدنة الأولمبية- عادلة جدًا، لكن قلة من الدول احترمتها عبر التاريخ باستثناء اليونان القديمة "، كان هذا رد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على دعوة نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون لإقامة هدنة أولمبية خلال فترة الألعاب التي ستحتضنها باريس .

لو عدنا الآن للحقبة الثانية من الألعاب المسماة " بالحديثة "، فسيبرز لنا تناقض شاسع بين مبدأ الهدنة "الكلاسيكي" و "الحديث"،  وخاصة في انعكاساته على الواقع السياسي والاجتماعي، وما اللحظة الراهنة وتداعياتها إلا خير مثال على هذا التناقض، فرد بوتين على دعوة الهدنة، حمل في طياته كمًا كبيرًا من التناقض بين الظاهر والباطن، الذي عكس حالة العبث الكبرى التي وصل لها مبدأ "إيكيتشيريا" بالعصر الحديث، حيث يبدو ظاهر كلام الرئيس الروسي أنه يولي قدسية كبيرة للمبدأ الأولمبي اليوناني "الكلاسيكي"، لكن باطن كلامه يوحي بازدرائه الكبير لمفهوم الهدنة في العصر الأولمبي الحديث.

وهذا التناقض الصارخ بين الظاهر والباطن في كلام الرئيس الروسي، يحمل أدق وصف لتاريخ كامل من تدنيس لمفهوم الهدنة " الحديث " و تقديس لمبدأ الهدنة " الكلاسيكي "، فبين ألعاب قديمة أوقفت الحرب وتداعياتها على مدى قرون كاملة، وبين ألعاب حديثة أوقفتها الحرب في ثلاثة مناسبات في أقل من نصف قرن، نجد أنفسنا في لحظة أولمبية راهنة هي الأكثر كثافة سياسيًا بثلاثة عقود الأخيرة، وبالتحديد منذ دورة برشلونة 1992، حينما جددت اللجنة الأولمبية الدولية  تقليد " إكيتشيريا " ودعت سائر الأمم إلى مراعاة هذه الهدنة، قبل أن تحث الجمعية العامة للأمم المتحدة الدول الأعضاء في قرارها 48/11 المؤرخ 25 أكتوبر/تشرين الأول 1993 على مراعاة الهدنة الأولمبية ابتداء من اليوم السابع قبل افتتاح الألعاب الأولمبية، وحتى اليوم السابع الذي يلي اختتامها.

ومن أجل فهم كيف وصلنا لهذه اللحظة الأولمبية المكثفة سياسيًا، يجب العودة مرة أخرى لبوتين، فهذا الأخير يمثل أكثر تعبيرًا على الصراع السياسي الأولمبي بالقرن الحالي، فمنذ صدور قرار الأمم المتحدة وهو الأكثر اتهامًا من قبل القوى الغربية بعدم احترامه للهدنات المعلنة، والتي من بينها اجتياح القوات الروسية لجورجيا عام 2008 بالتزامن مع أولمبياد بكين، وضم شبه جزيرة القرم بالقوة في 2014 خلال الألعاب الشتوية بسوتشي، واجتياح أوكرانيا في 2022 بعد 4 أيام من انتهاء الألعاب الأولمبية الشتوية في بكين.

وفي الوقت نفسه يعد بوتين أكثر من قدم اتهامات مباشرة للغرب في عملية تسيس الرياضة والمنافسات الأولمبية، من خلال التدخل المباشر في قرارات اللجنة الأولمبية الدولية، والكيل بمكيالين مختلفين في إصدار العقوبات بحق الدول والرياضيين، خاصة بعد القرار الأخير القاضي باستبعاد الرياضيين الروس من المشاركة بألعاب باريس، إلا بصفة محايدة وبعيدة عن كل إيحاءات أو شعارات تمت لبلدهم بأي صلة، والذي لاقى معارضة كبيرة من الإدارة السياسية الروسية، التي اعتبرته تمييزًا صارخًا يتعارض مع الروح والمبادئ الأولمبية.

فاللحظة الحاضرة من صراع بوتين مع الغرب - المتمثل في ماكرون - وحرب الاتهامات التي تسبق أولمبياد باريس، لم تكن إلا انعكاسًا لتاريخ كامل من التسابق نحو تسيس الأولمبياد بين المعسكر الغربي والمعسكر الشرقي، وعلى عكس الأوضاع بالألعاب القديمة التي كانت محصنة ضد السياسة، فإن الألعاب الحديثة بمختلف مراحلها مثلت مسرحًا لسياسة وألاعيبها عبر أكثر من قرن من المنافسات، نبسط لكم أبرزها بالفقرة التالية.

أربع مشاهد سياسية من الأولمبياد

ثمة العديد من المشاهد السياسية التي حضرت بدورات الألعاب الأولمبية، نستعرض لكم أبرز 4 منها

الحرب العالمية في قلب الأولمبياد

صحيح أن مبدأ الهدنة لم يكن ضمن المبادئ الأولمبية التي قامت على أسسها النسخة الحديثة من الألعاب على يد الفرنسي بيار دي كوبرتان 1896، إلا أن ألاعيب السياسة وواقع الأعمال العدائية كانت هي الأصل الذي فُرض على الألعاب، ولم تكن الاستثناء، فالحرب التي كانت تقف في فترة الألعاب، أصبحت هي سبب مباشر في إلغاء الألعاب في ثلاثة مناسبات مختلفة، بداية بدورة برلين 1916 التي ألغيت بسبب أحداث الحرب العالمية الأولى، ثم دورة طوكيو 1940 التي ألغيت بمفعول اندلاع الحرب العالمية الثانية، هذه الأخيرة ساهمت أيضًا في ألغاء نسخة لندن 1944.

الحرب العالمية الأولى وبسبب الانقسام السياسي الذي خلفته، كان لها تأثير مباشر على دورة أنتويرب 1920، هذه الدورة التي شهدت ميلاد العلم الأولمبي المكون من خمس حلقات ذات ألوان مختلفة، في إشارة لتوحيد القارات الخمس في حدث رياضي واحد، لم تستطع أن تنأى بنفسها عن منطق الاستقطاب السياسي لما بعد الحرب الأولى، وتم استبعاد الدول المنهزمة من المشاركة على غرار ألمانيا وتركيا والإمبراطورية النمساوية المجرية وغيرهم، المنطق ذاته طبق بعد الحرب الثانية ولم تتم دعوة ألمانيا واليابان للمشاركة في دورة الألعاب الأولمبية الأولى بعد الحرب العالمية الثانية، والتي أقيمت عام 1948 في لندن، فيما دعي الاتحاد السوفييتي لكنه رفض إرسال فريق له.

الحرب الباردة وسلاح المقاطعة

 ظهرت في دورة برلين 1936 أول بوادر التسييس الحقيقي للألعاب، فبعد أن تم التصويت سنة 1931 لصالح العاصمة الألمانية لاستضافة الألعاب، انقلب الرأي العام الغربي على هذا القرار بعد صعود الحزب النازي لسدة الحكم عام 1933، ونشأت مقترحات المقاطعة لأولمبياد برلين في العديد من الدول الغربية، التي شعرت بالفزع من سياسات ألمانيا العنصرية وانتهاكات حقوق الإنسان، وبالرغم من ذلك نجح الألمان في احضار أكبر عدد من الدول من بين كل الدورات السابقة بـ49 وفدًا، لكن الحكومة الألمانية بقيادة النازيين اتخذت من الألعاب وسيلة للدعاية، وطريقة من أجل تعبئة الجماهير، وتقوية روح الاعتزاز بالجنس الآري.

أما السيطرة الفعلية للحرب وتداعياتها الباردة على الألعاب فقد بدأت منذ اعتراف اللجنة الأولمبية الدولية بالاتحاد السوفييتي عام 1951، وجدير بالذكر هنا أن الألعاب الأولمبية مثلت وسيلة الظهور الأولى للعديد من الدول والكيانات على الساحة الدولية مثل فلسطين وتايوان وكوسفو، بسبب قواعد اللجنة الأولمبية الدولية في الاعتراف بالدول المخالفة لقواعد الأمم المتحدة.

أولمبياد موسكو
قاطعت دول المعسكر الغربي أولمبياد موسكو 1980

وانتقل التنافس السياسي بين الولايات المتحدة والسوفييت إلى التنافس الرياضي، بدأ بكسر السوفيات لهيمنة الأمريكان على الميداليات بفوزهم ب37 ميدالية مقابل 32 أمريكا بدورة ملبورن 1956، وصولاً لحرب المقاطعات وتسجيل المواقف السياسية، حيث عرفت الألعاب الأولمبية 1980 التي استضافتها موسكو غياب شبه تام لدول المعسكر الغربي، بعدما كان الرئيس الأميركي جيمي كارتر قد نادى بمقاطعتها احتجاجًا على التدخل السوفيتي في أفغانستان، وهي الدعوة التي استجابت لها 61 دولة، لترد دول المعسكر الشرقي الفعل في الدورة التالية مباشرة سنة 1984 بلوس أنجلوس، وتقاطع المشاركة في المنافسات. 

القضية الفلسطينية في قلب الأولمبياد

التطبيق الحقيقي للمقاطعة الأولمبية انطلق رسميًا مع دورة ملبورن 1956، حيث شهدت نسخة أستراليا مقاطعة عديد الدول لأسباب سياسية متنوعة، مثل اسبانيا وهولندا وسويسرا احتجاجاً على الغزو السوفييتي للمجر وغيرها، لكن المقاطعة الأكبر كانت من الدول العربية على غرار مصر والعراق ولبنان، بسبب تصاعد أزمة قناة السويس وتعرض مصر للعدوان الثلاثي من قبل انجلترا وفرنسا واسرائيل.

أكبر تعبير سياسي على القضية الفلسطينية في الألعاب الأولمبية تزامن مع دورة برلين 1972، حينما قامت مجموعة متكونة من ثمانية مسلحين فلسطينيين باقتحام القرية الأولمبية ، وقتلوا اثنين من أعضاء الفريق الإسرائيلي. واحتجزوا تسعة آخرين كرهائن في محاولة للمساومة على إطلاق سراح 200 أسير فلسطيني في سجون الاحتلال. هجوم خلف أعمال عنف كبيرة بين الفلسطينيين والشرطة الألمانية أنتج عن مقتل 9 اسرائيليين و5 فلسطينيين.

الأولمبياد فرصة لمكافحة العنصرية

 في أولمبياد مكسيكو 1968، اخترقت السياسات العنصرية للإدارة الأمريكية منافسات ألعاب القوى، حين احتج العداءان الأمريكيان تومي سميث وجون كارلوس بطريقتهما الخاصة على معاملة بلادهما للمواطنين السود، كان ذلك خلال حفل توزيع جوائز سباق 200 متر للرجال، حيث صعدوا حفاة على منصة التتويج في المركزين الأول والثالث، وأثناء عزف النشيد الوطني الأمريكي، رفعوا قفازًا أسود واحدًا بينما كانوا يحنون رؤوسهم، وقام أيضًا العداءان الأمريكيان رفقة الأسترالي بيتر نورمان صاحب المركز الثاني بحمل شارات حقوق الإنسان أثناء مراسم التتويج، ليتم حظر سميث وكارلوس على الفور من قبل اللجنة الأولمبية الدولية واللجنة الأولمبية الأمريكية.

وقاطعت نحو عشرين دولة، معظمها من أفريقيا، دورة الألعاب الأولمبية عام 1976 في مونتريال حين رفضت اللجنة الأولمبية الدولية منع نيوزيلندا من المشاركة في الألعاب، على خلفية قيام فريق الرجبي الوطني النيوزيلندي بجولة في جنوب أفريقيا، هذه الأخيرة التي تم حظرها من الألعاب الأولمبية منذ عام 1964 بسبب سياسات الفصل العنصري، ولم تنجح المقاطعة في منع نيوزيلندا من المشاركة في الألعاب، إلا أنه كان لها تأثير مالي ورياضي كبير على الألعاب. والأهم من ذلك أنها لفتت انتباه العالم إلى سياسات الفصل العنصري في جنوب إفريقيا.