"سوف يمرّ، وما زلت آملُ.. سوف يمرّ، وأظلّ أقول.. في بعض الأحيان أعني ذلك، وفي أُخرى لا أفعل.. وبينما تستمرّ غزة في التلهّف للحياة، فإننا نكافح من أجل أن يمرّ، وليس لدينا خيار سوى النضال ورواية قصصها، من أجل فلسطين".
هذا ما جاء بقلم الشاعر رفعت العرعير في نص له بعنوان "غزة تتساءل: متى يمر كل هذا؟".
في تساؤل الشعراء والفلاسفة الدائم الذي يحفزه عليه المكان، العنصر الأبرز والمحفز والداعي لبدء السطور الأولى في الكتابة نجد أنَّ رفعت العرعير، الشاعر والأكاديمي، الذي ولد وترعرع في غزة في حي الشجاعية -المعروف بصلابة أهله وشجاعتهم والمعروف تاريخيًا منذ عهد صلاح الدين الأيوبي الذي أسكن فيه كبار المقاتلين والمجاهدين وأفضلهم على الإطلاق، وقد حققوا النصر فعلًا على الصليبيين، ويعد هدفًا عسكريًا لأهمية وشجاعة سكانه- قد رفض سياسة التهجير وظل صامدًا فيه، رغم الحصار والقصف الشديد، وتهديد جيش الاحتلال المستمر للمنطقة وله بشكل شخصي، ورغم قدرته على الاستقرار خارج غزة إلا أنه وجد في غزة نفْسه، وكان يشعر أنَّ غزة تشبهه.
وهذا يسير بالتضاد مع الشاعر والفيلسوف الإيطالي جياكومو ليوباردي الذي بقي طوال حياته رافضًا للمكان، مشؤومًا منه ومن فقده القدرة على الحياد عنه وتجاوزه، إذ كان معزولًا في ريكاناتي البلدة المتواضعة الموحشة التي لم يكن يحدث فيها شيء غير عادي، حتى وإن استطاع تجاوز ريكاناتي بخياله فإنه سيستغرق في الظلام والنهاية، وسينتهي إلى العدم، شاعرٌ نظر إلى الوجود نظرة عدمية تشاؤمية ظللت جميع قصائده وكتاباته، " كلّ شيء شرّ. أعني، كلّ شيء موجود لغاية شرّيرة. هذا الوجود معيب وشاذّ ومتوحّش. والشرّ هو الغاية والغرض النهائي من الكون. والشيء الوحيد الجيّد حقّا هو العدم".
في تساؤل الشعراء والفلاسفة الدائم الذي يحفزه المكان، العنصر الأبرز والمحفز والداعي لبدء السطور الأولى في الكتابة، نجد أنَّ رفعت العرعير قد رفض سياسة التهجير وظل صامدًا فيه
أستدل هنا على نفَس الشاعرين بقصيدين؛ القصيدة الأخيرة للشاعر رفعت العرعير "إذا كان لا بد أن أموت"، وقصيدة "الأبدية" للشاعر الإيطالي ليوباردي.
يكتب العرعير:
"إذا كان لا بدّ أن أموت
فلا بد أن تعيش أنت
لتروي حكايتي
لتبيع أشيائي
وتشتري قطعة قماش
وخيوطًا
(فلتكن بيضاء وبذيلٍ طويل)
كي يُبصر طفلٌ في مكان ما من غزّة
وهو يحدّق في السماء
منتظرًا أباه الذي رحل فجأة
دون أن يودّع أحدًا
ولا حتى لحمه
أو ذاته
يبصر الطائرة الورقية
طائرتي الورقية التي صنعتَها أنت
تحلّق في الأعالي
ويظنّ للحظة أن هناك ملاكًا
يعيد الحب
إذا كان لا بد أن أموت
فليأتِ موتي بالأمل
فليصبح حكاية".
يكتب ليوباردي:
"لطالما كان هذا التل الوحيد عزيزًا علي
هو وهذا السياج الذي يحجب رؤية الأفق الشاسع
لكن عندما جلست وحدقت فيه..
رأيت بعين قلبي مساحات لا نهاية لها، وصمتًا مطبقًا
وهدوءًا قاتلًا.
فزيفت حينها أفكاري لأنها كادت أن ترعبني.
وعندما سمعت هزيز الرياح بين هذه النباتات
بدأت أقارن ذلك الصمت اللامتناهي.. بهذا الإزعاج.
فكرت بالأبدية، والفصول المنسية، وتلك الحالية.
وهكذا غرق فكري وغدا حطامًا في هذا البحر العذب".
الأمل، دائمًا الأمل، ما نتلقفه كلما مضينا في كتابات رفعت العرعير، الشروق يسابق الظلام ويسابق الموت، والصمود يقهر الاستسلام، لقد جعل رفعت حتى من جذور الموت أملًا وحياة كما وعدت السماء وصدَّق بوعدها، فقد أقرن موته بحياةٍ كاملة ستأتي لشخص آخر يليه، فموته ليس عائقًا أبدًا أمام فكرة الحياة التي تستبطن الحرية، الحياة عند العرعير هي الحرية بالتأكيد وهي فكرة فلسفية تتشعب عن المفهوم الأهم وترمز إلى أبعد من حياة الإنسان وعناصرها، دائمًا ما كان يستنجد بقلمه لقمع الاحتلال ويدعو إلى استخدامه، لذلك رسخ جذوره وسقاها في أرضه وعلَّمها وكتبها ليحيا دائمًا، وهذا المعنى الطويل لا نجده عند ليوباردي، كان مستسلمًا للموت (الشر) ووجد موته غير مقرون ووجد حياته غير مقرونة بشخص ولا يمدها لشخص آخر، فالتل وحيد والسياج يحجب رؤية الأفق، ووجوده ينافسه العدم ولا يود أن يشاركه مع أحد، وهذا يتأكد عندما نقرأ في حياته، سنجد مثلًا أنه أهدى شقيقته في يوم زفافها قصيدة تشاؤمية ونشيدًا جنائزيًا لا يعبر عن الفرح على الإطلاق.
لقد حصر رفعت نفسه بإرادته في المكان وظل يتغنى به وبأشيائه التي يملكها وكانت بالنسبة له ذات قيمة عالية (قطعة القماش البيضاء، والخيوط)، أما بالنسبة لليوباردي فكان محاصرًا بالمكان موقنًا من فقدانه لأشيائه العزيزة كارهًا المكان حزينًا بسببها (السياج، التل).
كما أن استخدام العرعير لكلمة السماء له مدلول شاسع رغم عدم اقترانها بكلمة "شاسع" التي استخدمها ليوباردي مقرونة بـ"الأفق" التي تعبر عن الخط، والذي يكون مقتربًا من الأماكن المنخفضة والوديان، أو هو ما انتهى إليه البصر من السماء مع وجه الأرض. في معناه سنجد النهاية... حتى لو كان "شاسعًا".
نجد في قصيدة ليوباردي كلمات مثل: وحيد، يحجب، حزين، قاتلًا، ترعبني، هزيز، إزعاج، حطامًا.. رغم لجوئه إلى تسمية قصيدته بالأبدية وهذا تمويه دلالي مقصود، أما رفعت فقد استخدم -رغم اختياره عنوان قصيدته- كلمات مثل: تحلق، الأعالي، ملاكًا، الحب، أمل.. وهذا تأكيد مقصود للمعاني الأهم في القصيدة (الحياة والمجد والأمل) التي افتقدتها تمامًا قصيدة ليوباردي.
فكرة الإنسان تملأ كلمات رفعت، وهي الفكرة التي يصر على حمايتها، سيأتي حتمًا إنسان بعده يعيش ويروي حكايته، ويتشارك معه هذه الحكاية، حكاية الإيمان بإمكانية التحرير، أما بالنسبة لليوباردي فاعتبر الإنسان مادة ثقيلة وكائنًا ناقص التكوين هش يتجه نحو الفناء، وحزنه متأصل فيه يقوده إلى العزلة طوعًا لا يتشاركه مع أحد بل يجب أن يتحمله وهذا ما يؤول إلى اختفاء المتعة، وتلاشي النفس البشرية في الزمان والمكان، هذه الأفكار التي على تضاد مع الأفكار الروحية، بالإضافة إلى أمراضه المتلاحقة طبعت في روحه الألم والانسحاب. العزلة ما تروي شعوره بوجوده، وبالنسبة لرفعت فانكفاؤه على أهمية تحقيق معنى الإنسان وتركيز أمله على أهداف وجودية ترتكز على الحرية وترسيخ القيم النبيلة هو الجليّ.
رغم اختلاف النظرة التي يمتلكهما الشاعرين، النظرة القاتمة للعالم والعدمية والأخرى اليقينية القوية تجاهه إلا أنَّ نشيدهما واحد، هو إعلاء اسم الأرض؛ فلقد كان ليوباردي داعمًا للحركات التي تدعو الإيطاليين إلى النضال من أجل استقلالهم، وهي الأفكار التي دائمًا ما يحملها معه أنَّى رحل بدءًا من هذا التل العزيز عليه حتى لو كان بصورة حزينة، أما رفعت فقد كان رافضًا للاحتلال، منتظرًا النصر والحرية برمز واضح في القصيدة (الطائرة الورقية التي تروي الحكاية).