تحضر فلسطين في نتاج سعد الله ونوس المسرحي في ثلاث مسرحيات وعبر ثلاثة أزمنة جاءت تلك المسرحيات على إثرها وبتأثير منها، ما جعل من فهمها وتحليلها مشروطًا بربطها رأسًا بالسياق الزمني الذي يعكس طبيعة المناخ الفكري والسياسي والاجتماعي، بل وحتى العاطفي السائد آنذاك حول القضية الفلسطينية.
يُظهر تناول المرحلة، بالتوازي مع طبيعة المسرحية المعبِّرة عنها، إلى أي حد حافظت القضية الفلسطينية على مركزيتها السياسية والتاريخية والدينية والوجدانية في المجال الجغرافي والسياسي والعروبي. ولكن ملاحقة المؤشرات الواردة في سياق مسرحيات سعد الله ونوس، تقودنا إلى ملاحظة تراجع تلك المركزية أقلّه على المستوى السياسي والوجداني، وتبدّل موقع تلك المركزية لصالح البعد الديني التاريخي، وتمدِّد نوع خاص من الوجدانية الدينية واحتوائه للقضية الفلسطينية وفق شكل معين من العاطفة.
مثّلت مسرحيات سعد الله ونوس ثلاث مراحل فارقة في تاريخ القضية الفلسطينية وهي: النكبة، والنكسة، وما بعد الانتفاضة الأولى 1987
ويمكن ملاحظة التحولات التي طرأت على الفهم الفلسفي والنفسي للقضية الفلسطينية، من خلال فهم المسرحيات ذاتها في سياقها الزمني على أنها تأريخ يعالج فهم المرحلة السياسية والاجتماعية عبر النص المسرحي، ومن خلال مناقشة النموذج العربي والفلسطيني عبر الأدب والفرضية الفنية كذلك. وعلى الرغم من أن النضج الأكاديمي لسعد الله ونوس نفسه قد يبدو عاملًا حاسمًا جدًا في قراءة مسرحياته عن فلسطين، إلا أن تأثير العامل الأيديولوجي القومي لمثقف ما بعد النكبة وما بعد النكسة يبقى حاضرًا بشكل جلي.
والتأريخ عبر المسرح كان أسلوبًا قصديًا انتهجه الكثير من الأدباء لتأصيل الحكاية الفلسطينية كما جرت خوفًا عليها من الضياع والتلاشي، فقد كان بعض الكتّاب من أمثال ألفريد فرج (1929 - 2005) الذي تناول قضية فلسطين ومأساتها عبر مسرحيته الشهيرة "النار والزيتون"، مدفوعين بهذا الهاجس لحماية حكاية فلسطين من التزوير والضياع، ولجعلها غير قابلة للجدال والاحتمالات التاريخية. ولم يكن سعد الله ونوس في مسرحيته الأولى التي تناولت القضية الفلسطينية ببعيد عن ذلك التأصيل.
وبالعودة إلى الأزمنة وتحولات ونوس الفكرية والمسرحية في معالجته للقضية الفلسطينية عبر المسرح، يمكننا القول إن مسرحياته الثلاث مثّلت ثلاث مراحل من عمر القضية الفلسطينية، وهي: النكبة، والنكسة، وما بعد الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987.
تناول سعد الله ونوس المرحلة الأولى، النكبة، في مسرحية "فصد الدم" (1963) التي تتجلى فيها عمليات الدمج العديدة التي أجراها في كتابتها، والتي تُظهر حداثة عهده في الكتابة المسرحية، إذ اشتملت المسرحية على أساليب واتجاهات أدبية مختلفة ما بين الأرسطوية، والتكنيك الوجودي الأدبي، بتأثر واضح بأدب جان بول سارتر وألبير كامو، وبين الميلودرامية والرمزية.
تجلّت الرمزية في محاولة ونوس جعل الإنسان الفلسطيني والعربي أقرب إلى المفهوم منه إلى الشخصية الحية، وإخضاع هذا المفهوم لمجموعة من التحديات والمكاشفات على مستوى الذات الجمعية وليس على مستوى الذات الفردية فقط. كما تظهَر الأسلبة الوجودية من خلال شطره لذلك النموذج إلى نصفين، "عليوة" المهزوم السكير المتخاذل و"علي" اليقظ الثائر الجسور، ثم جعلهما شخصيتان متطابقتان إلى حد بعيد في الملامح والملابس والظرف.
وهكذا، يمثّل عليوة اللاوعي المهزوم، بينما يمثل علي الوعي أو ما يجب أن يكون عليه من يقظة وتحفز. وقد قام سعد الله بربط هذه الإسقاطات والدلالات عبر سلسلة من المونولوجات الميلودرامية الأرسطوية لكلا الشخصيتين. ورغم السياق الفلسفي والترميز الدلالي، إلا أن منطوق الشخصيات زخر بالخطابية التوجيهية المباشرة، التي دعت العرب والفلسطينيين على حد سواء إلى جعل جروح النكبة قنوات ومنافذ لخروج الدم الفاسد من جسد الأمة، وبتر الأطراف المعطوبة التي تعيق النهوض مجددًا لاستعادة الحق والأرض.
دمج ونوس تلك الاتجاهات الأدبية وبوبها بعنوان رمزي هو "فصد الدم"، في إشارة إلى طريقة الطب الشعبي في استنزاف الدم الفاسد وإخراجه من الجسد عبر إحداث جروح فيه. وحاول أن يعتبر أن مسرحيته هي الشَفرة التي تحدث تلك الجروح ليستطب بها وعي الأمة، ويعزل عنه الوهن والدم الخراب.
أما المرحلة الثانية، فقد كانت مركبة على مستوى الحدث السياسي وتأثيره على شخصية ونوس كمثقف عروبي، فقد تركت مرحلة النكسة، أو هزيمة حزيران، أثرًا واضحًا وجليًا على ونوس وقناعاته الأيديولوجية، وأحالته إلى شخص غاضب ناقم. ويمكن لمس ذلك الغضب والشعور به عند قراءة مسرحية "حفلة سمر من أجل 5 حزيران" وربما كل ما تلاها من مسرحيات.
يمكن ملاحظة التحولات التي طرأت على الفهم الفلسفي والنفسي للقضية الفلسطينية من خلال فهم مسرحيات ونوس الثلاث في سياقها الزمني
انكب ونوس بعد هزيمة حزيران على إجراء مقاربات مسرحية من بلد الابتعاث، فرنسا، التي اختارها لإجراء دراساته الأكاديمية وعاد منها محملًا بمفاهيم المسرح السياسي والملحمي، وبتبني شديد إن لم نقل استلاب لأدوات المسرح السياسي الأوربي ورواده من أمثال الألماني برتولد بريخت، ومسرح بيتر فايس القائم على فلسفة المسرح الملحمي وكسر الإيهام وإحداث تغريب خلال سرد الحكاية لإثارة وعي المتفرج والعمل على تمزيق الحجب الوهمية بين فضاء اللعب وفضاء المتلقي، مما يحث الأخير على التخلي عن سلبية المتفرج والدخول طوعًا في لعبة التفكير و استحضار الوعي.
قدّم ونوس تلك المقاربات من خلال ما اصطُلح على تسميته بـ"مسرح التسيس" عبر دمج الأنماط الفرجوية العربية بالموضوعة السياسية، وعدم إسقاط البعد السياسي المباشر عن القضية الاجتماعية المراد تمثيلها على المسرح.
نُظر إلى ونوس دومًا في عالمنا العربي كمؤلف مسرحي، وأجد أن في ذلك مغالطة، فهو لم يشتغل على النص المسرحي "كأدب" بقدر اشتغاله على مفهوم العرض المسرحي، فهو بذلك أقرب إلى المنظّر المسرحي منه إلى الكاتب المسرحي، خاصةً أنه يعيد ملء الهياكل المفاهيمية المسرحية الأوروبية بالقص الشعبي العربي بعد معالجة الحكاية الشعبية وتضمينها كل الإحالات السياسية المطلوبة، حسب موضوع المسرحية.
وفي العودة إلى غضب ونوس ويأسه الأيديولوجي، نجد أن هزيمة حزيران، المتزامنة مع نضج ونوس الأكاديمي المسرحي، قد ساهمت بتفسيره لمفهوم "سلبية المتلقي" لاستخدام المصطلح المسرحي بشكل مفرط سياسيًا، إذ صار يُظهر المواطن العربي في مسرحه سلبيًا على الدوام، وهو في مجمل المسرحيات يقف في موضع المحاكمة السياسية، وقد تحول التحفيز للمتلقي في فلسفة بريخت، الى تأطير عند ونوس، وتحول كذلك إلى التغريب، وهو قطع صلة المتلقي المسرحي مع الحكاية للحظات لإثارة انتباهه. كما تحول إلى "تنوير" لكنه تنوير قسري يتمثل بتسخيف عالم المتلقي، والانقضاض على مبادئه ومعتقداته بوصفها سلطات لا بد من تحطيمها لبلوغ الوعي، سيما في رحلة التقدم نحو الأمام.
ولا يفسِّر ونوس السلطة ببعدها السياسي فقط، بل يرى أن المتلقي "المواطن" العربي محاصر بسلطات عديدة دينية واجتماعية فضلًا عن السياسية. يظهر هذا بوضوح، أولًا، في مسرحية "حفلة سمر من أجل 5 حزيران" التي يحاول فيها قراءة أسباب الهزيمة، ويخلص إلى أن مصدرها الأساسي الجهل ووقوع المواطن العربي فريسة سهلة بين مخالب كل السلطات بسبب تغييب وعيه وسلب إرادته.
تبدأ هذه المكاشفة من خلال فرضية تصيب المتلقي بالإرباك لدرجة أنه سيحتاج وقتًا كافيًا لفهم ما يحدث، وهي تقنية مسرح داخل مسرح، إذ تجري أحداث المسرحية داخل مسرح، وبعد رفع الستار يخرج إلى الجمهور المخرج، ويعلن أن المؤلف سحب نصه، لذلك سوف يقدمون عوضًا عن العرض المقرر قراءات شعرية للجمهور، أو يقدمون مشهديات متفرقة، وفي كل مرة يعرض فيها العرض، سوف يشتمل على كل الطبقات الاجتماعية: مسؤولون، موظفون حكوميون، مثقفون، وعامة. وإلغاء عرض الحكاية التي تتناول نكسة حزيران، واستبدالها بمشهديات عامة، هو دلالة على عدم رغبة المواطنين والسلطة بمعرفة أسباب الهزيمة ورغبتهم بإكمال حياتهم كما كانت قبلها.
تمثل المرحلة الثالثة التي جاءت بعد الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987 تحولًا عميقًا في فكر ونوس ورؤيته للقضية الفلسطينية، إذ يدعو فيها إلى إلغاء الحظر والقبول بالجهل الكامل تجاه المجتمع الإسرائيلي، بوصفه تابو بالمعنى السلبي، يحظر التعرف إليه ومحاولة فهمه، لأن ذلك سوف يقود إلى أنسنته والاعتراف بوجوده. ودعا العرب والفلسطينيين خصوصًا إلى الاقتراب أكثر من المجتمع الإسرائيلي وفهم نماذجه وأنماطه، فلا يمكن الانتصار على أشباح وأوهام، لذا لا بد علينا لنعرف عدونا أن نعرفه ونفرز أنماطه ونماذجه.
وجّه ونوس رسالته المسرحية تلك بشكل أكبر إلى الداخل الفلسطيني، ودعاهم إلى التحرر من ذلك الحظر النفسي المفروض علينا في الأدبيات السياسية والأخلاقية والدينية. وقد اقتبس مسرحيته الثالثة "اغتصاب" عن رواية للكاتب الإسباني أنطونيو بوريو باييخو بعنوان "القصة المزدوجة للدكتور بالمي"، والتي حاول فيها تفكيك مفاهيمنا حول العدو الإسرائيلي، وأساليب الصهيونية في تأسيس دولة الإبادة والرعب.
التأريخ عبر المسرح كان أسلوبًا قصديًا انتهجه الكثير من الأدباء لتأصيل الحكاية الفلسطينية كما جرت خوفًا عليها من الضياع والتلاشي
حاول ونوس أن يقول إن الجريمة تلاحق مرتكبها، ومن المستحيل أن يكون الطرف المضطهد، هو فقط من يحصل على الأثر، الجريمة وأداتها سوف تتسللان إلى حياة المجرم، وتعبثان بحياته وتحطمانه من الداخل. وعلى الرغم من محاولة ونوس ولوج مساحات أكثر عمقًا، داخل معاني القضية الفلسطينية وحولها، ومحاولته إنتاج وعي جديد يخلق أدوات مختلفة لرسم تصورات عربية وفلسطينية تجاه فلسطين المشتهاة وفلسطين الواقعية، لكنها - أي المسرحية - لم تستقبل بذات الترحاب والتفاعل التي استقبلت به سابقاتها، بل عُدَّت اعترافًا مضمرًا منه بتبني النهج الذي يدعوا إلى حل سياسي ينهي الصراع.
مثّلت مسرحيات سعد الله ونوس قراءة زمنية وأدبية للقضية الفلسطينية، وأظهرت لنا أن هذه القضية اتسمت بالثبات لناحية القيمة والحق، لكن المفاهيم السياسية والأدبية حولها اتسمت بالتغيّر. الأدب ينفعل شابًا تجاهاها، ثم يدعو للمواجهة رجلًا يلوم ويغضب ويحذر من التخلي عن المقاومة، ثم يصير أكثر حكمة وهدوءً، وأقل قدرة على المواجهة المفتوحة. ترينا مسرحيات ونوس الثلاث أن الأدب يكبر ويشيخ، بينما تبقى فلسطين شابة.