يذكر برتراند رسل، في كتابه "السلطة والفرد"، عددًا من الأسباب التي تقوّي علاقة الأفراد ببعضهم البعض في مجتمع ما، وتعزز في نفس الوقت من علاقتهم بالسلطة الحاكمة، ومن أهم تلك الأسباب الحروب، خاصة إذا كانت حروبًا عادلة، فالخطر الداهم، بحسب الفيلسوف، يوحّد الناس على قلب واحد عندما يكون العدو خارجيًا.
أمام هذه الفرضية يتبادر لنا سؤال قديم متجدد، حول علاقة الشعوب العربية ببعضها البعض وتراصفهم في وجه الخطر العالمي الذي يستهدف أوطانهم وقضاياهم!
فلا يمكن لأحد نسيان الموقف العربي من الثورة الجزائرية في وجه الاستعمار الفرنسي، أو الموقف العربي لدى اندلاع حرب تشرين الأول/أكتوبر ضد الكيان الصهيوني، أو الموقف العربي بشكل عام من الحرب العراقية الإيرانية!
كل تلك المواقف تمركزت حول مرتكز أساسي جوهره الدعم والمساندة والتعاطف.
إذا وضعنا الفرضية السابقة نصب أعيننا وتأملنا المشهد الحالي في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية واستحقاقاتها العربية، قد نلاحظ بأنها انزاحت من الصدارة في المشهد العام لصالح قضايا محلية تخص كل بلد عربي دون سواه.
هل يمكننا القول إذا بأن الشعور القومي العربي تجاه قضية فلسطين قد ضعف وتراخى؟! أم أن ضبابًا مؤقتًا نزل على الطرقات فأعمى بصائر البعض وسينقشع عاجلًا أم آجلًا؟!
هل يمكننا القول إذا بأن الشعور القومي العربي تجاه قضية فلسطين قد ضعف وتراخى؟! أم أن ضبابًا مؤقتًا نزل على الطرقات فأعمى بصائر البعض وسينقشع عاجلًا أم آجلًا؟!
على الرغم من اتفاق الأنظمة العربية جميعها على أن العدو الصهيوني عدو جمعي، إلا أن وجوده لم يشكل بالنسبة لهم عاملًا يحثهم على التوحد، فالخطر كما يبدو غير داهم ولا عام ولا يشكل تهديدًا شاملًا.
قبل ثورات الربيع العربي، كان هنالك اتجاه عام للتركيز على وجود عدو وحيد بالنسبة للمواطن العربي، عدو يستهدف وطنه وثرواته وعقيدته وموارده. عدو مدعوم من الغرب، إمبريالي النزعة، يحظى بدعم عالمي كنتيجة مباشرة لمظلومية تاريخية تعرض لها في أوروبا والآن يدفع العرب ثمنها، وخاصة الفلسطينيين.
وتم ربط كل المشاكل الداخلية في البلدان العربية المحيطة بالكيان الصهيوني بمركزية قضية فلسطين، وتعليق كل الفشل الداخلي الذي تتحمله سياسات الأنظمة وعلاقاتها مع شعوبها على استحقاق الكفاح ضد اسرائيل.
هذا الأمر انعكس بدون شك على كل مناحي الحياة في بعض الدول العربية، ولم يكن الأمر بالنسبة للشعوب أمرًا مزعجًا، بل تبنته واعتبرته أولوية لا يمكن التنازل عنها.
توالت خيبات العرب التاريخية منذ اتفاقية سايكس بيكو المشؤومة، وبدأت سلسلة لا تنتهي من الفوضى العربية العامة نتيجة للاحتلالات المختلفة للدول العربية، وانشغال كل بلد عربي بقضية تحرره من الاستعمار، ورغم ذلك الإرهاق العربي تحولت القضية الفلسطينية لاحقًا إلى القضية الجامعة والموحدة للعرب، قضية يتفق الجميع على عدالتها.
لكنها ومع مرور الوقت واستفحال النزعة الدكتاتورية في الدول العربية تحولت لشماعة يعلق عليها الكثير من السلوكيات التي تتبناها الأنظمة، ولا تتوافق أصلا مع مصلحة الفلسطينيين في الداخل أو الخارج، وبدلًا من أن تتضافر الجهود لدعم القضية، بدأت الجهود العربية تتجه نحو التراخي.
نكبة ثم نكسة، ثم حروب لم تسفر عن نتائج حاسمة وانتصارات عربية ناصعة، كل ذلك أدى لخلق حالة من الوهن العربي العام، ترافق مع انهيارات اقتصادية عالمية وأوضاع مأساوية شهدتها الدول العربية.
استغلت بعض الأنظمة ذلك وجعلت من القضية الفلسطينية سببًا مباشرًا في تردي الوضع العربي العام، وبدأت موجة مضادة تطغى على المشهد العام، ركبها كل من اعتقد بأن التطبيع الكامل مع الكيان الصهيوني سيضمن له النجاة والرفاهية والأمان، وسيقربه من القلب الغربي النابض بمبادئ العدالة والمساواة والديمقراطية.
خرجت دعايات مسيئة جدًا بحق الفلسطينيين المنقسمين على أنفسهم في الداخل، وكأن ذلك الانقسام لم يكن مفهومًا في ظل كل ذلك الجبروت الأمني والعسكري المطبق بحقهم طيلة عقود، وظل التخاذل والدعم العربي، والامتعاض العالمي من كلمة فلسطين.
وابتعد الكثير من المثقفين العرب عن قضية فلسطين كأنها قضية موبوءة، لاعتقادهم بأن الأبواب الموصودة ستفتح في وجوههم بمجرد أن ينالوا الرضا الغربي لمحاباتهم لإسرائيل.
وصعدت للسطح النزعات العربية القومية، لتصبح مزادًا عامًا، فالفينيقي يصارع الآرامي، والآشوري يغالب الفرعوني، وما إلى ذلك من قضايا لا تتعلق بالحاضر ولا المستقبل.
حل الربيع العربي بكل ما حمله من آمال وتطلعات، فانتعشت النفوس مؤقتًا، قبل أن تبدأ ثورات مضادة بنسف كل التضحيات والتطلعات والآمال
قضايا صغيرة وبائسة تخاطب الغريزة القتالية غير المشبعة للمواطن العربي المقموع والمهزوم نفسيًا.
ثم حل الربيع العربي بكل ما حمله من آمال وتطلعات، فانتعشت النفوس مؤقتًا قبل أن تبدأ ثورات مضادة تنسف كل تلك التضحيات والتطلعات.
ووسم طالبو الحرية وعاشقوها بوسم الخيانة الوطنية في كل بلد حل به الربيع.
أضف إلى ذلك جهل الشعوب العربية ببعضها البعض، في ظل انفصالها جغرافيًّا وسياسيًّا وانشغالها بمشاكلها الداخلية. فسادت أفكار نمطية شريرة تجاه كل شعب، كرستها الدعايات والأنظمة الدكتاتورية.
تحول الإنسان المصري العظيم، وفقًا لتلك الدعايات، إلى إنسان خدمي النفسية، والإنسان السوري لشخص عنيد وغير مؤتمن، والإنسان الخليجي لشخص متخلف ومرفه وغير عابئ بهموم محيطه، واللبناني لمستهتر.
لكن أخطر ما يمكن قوله هنا هو تحول الفلسطيني المقاوم من مناضل وصاحب قضية إلى مشاكس وقاتل وإرهابي ومنبوذ، حتى من قبل حاضنته الاجتماعية.
بالمقابل بدأت تختفي صورة الإسرائيلي المتعطش للدماء، وصاحب مجازر صبرا وشاتيلا وكفر قاسم وغيرها العشرات، لتحل محله صورة كيان ديمقراطي مزدهر ومفعم بالرغبة بالسلام مع محيطه العربي.
تلك التصورات النمطية المكرسة في عقول العامة من شعوب المنطقة، تم استغلالها جيدًا.
خاصة مع كل ذلك القمع الذي تعرض له المواطن العربي، الذي ثار رغبة منه في الخروج من قمع الحكم الشمولي نحو وطن ديمقراطي.
صارت المقارنة بين سلوك الصهاينة في تعاملهم مع مواطنيهم وبين سلوك الأجهزة العربية الأمنية مقارنة اعتيادية، انعكست من خلالها خيبة أمل الإنسان العربي.
ذلك الشعور الوليد عزز لدى الكثيرين رغبة بالتخلي عن التعاطف مع الفلسطيني المتذمر من إسرائيل.
ثم جاء طوفان الأقصى ليحمل معه كل ذلك الضباب والغشاوات والدعايات والصور النمطية، ويكتسح التصورات المسبقة لمستقبل يجمع العرب وإسرائيل، ويلقي بنظرية التطبيع تحت الأرجل.
فهما كان سبب الحرب، ومهما كانت نتائجها المأساوية، لكنها علامة فارقة في تاريخ الصراع العربي الاسرائيلي، وفي تاريخ العرب الحديث شعوبًا وحكومات، حتى لو تأخرت النتائج لتتبلور.