يُقال دائمًا الحاجة أُمُّ الاختراع فمنذ بداية الزمان استمر الإنسان في السعي الحثيث نحو ابتكار أدواتٍ تُسهل حياته وتساعده على أداء مهامه بكفاءةٍ وسهولة. وقد كان هذا السعي مثمرًا إذ أسفر عن بداية تاريخ الروبوت، هذه الآلة الذكية التي تحاكي سلوك البشر وتنفذ تعليماته بدقةٍ مذهلةٍ.
قد نظن للوهلة الأولى أن الروبوتات هي نتاج ثورة صناعية حديثة، وأن مفهوم "الآلة التي تفكر أو تعمل مثل الإنسان" قد انبثق مع التقدم العلمي والتكنولوجي الهائل في العقود الماضية. لكن هذه الفكرة خاطئة تمامًا، فالرغبة في صُنعِ آلاتٍ قادرة على تحريرنا من قيودنا البشرية تمتد جذورها لآلاف السنين، حيث تظهر تصاميم لآلات ذاتية الحركة في مخطوطات فرعونية، وتماثيل متحركة تسكب المشروبات تعود إلى الحضارة اليونانية القديمة!. وفي هذا المقال سنغوص في رحلةٍ قصيرة حول تاريخ الروبوت.
في الميثولوجيا الإغريقية، نرى هيفايستوس - إله النار والحدادة - يصنع لنفسه خادمات ميكانيكيات من الذهب.
تاريخ الروبوت
رغم ارتباط مصطلح "الروبوت" في أذهاننا بالآلات المعقدة ذات المظهر المستقبلي، إلا أن مفهوم الإنسان لـ"الأداة المصطنعة التي تؤدي مهام شبيهة بالمهام البشرية" في الحقيقة أقدم من ذلك بكثيرٍ. إذ نجد عبر الثقافات المختلفة قصصًا وأساطير تحكي عن آلات أو تماثيل متحركة تسخرها الآلهة لخدمة قضاياها ومصالحها. ففي الميثولوجيا الإغريقية، نرى هيفايستوس - إله النار والحدادة - يصنع لنفسه خادمات ميكانيكيات من الذهب، ويتحدث هوميروس في ملحمة الإلياذة عن ثلاثيات ذهبية متحركة تساهم في تقديم الخدمات خلال الموائد.
لم تقف فكرة "الإنسان المصنوع" عند حدود الحضارة الإغريقية وحدها، ففي ملحمة "جيسار" التاريخية – أحد أعمدة الثقافة بمنطقة آسيا الوسطى – نجد ذكرًا لرجال آليين من المعدن يساهمون في أعمال البناء والمعمار. وهناك أيضًا أسطورة صينية قديمة حول الحرفي الماهر "يان شي" الذي اخترع دمى راقصة قادرة على التجاوب بشكلٍ يجعلها مشابهة للبشر! قد تبدو هذه الأساطير مجرد أعمالٍ خيالية، إلا أنها تجسد تطلعات الإنسان الدائمة لصنع كائنات ذكية مسخرة لتنفيذ مهامه.
أبو العز بن إسماعيل يعتبر أبو المهندسين الميكانيكا في العالم لما له الكثير من الاختراعات، والتي من أهمها أول من اخترع الإنسان الآلي المتحرِّك.
روبوت أبو العز بن إسماعيل بن الرزاز الجزري
البداية مُنذ أكثر من 900 عام، وتحديدًا في عام 1136 ميلادي. ها هو أبو العز بن إسماعيل بن الرزاز الجزري، عالم ميكانيكا عبقري عاش في القرن الثاني عشر الميلادي. ولد في جزيرة ابن عمر، التي تقع اليوم في تركيا على خط الحدود مع سوريا. نال الجزري هذا اللقب نسبةً إلى جزيرة ابن عمر التي ولد فيها، والتي كانت تُعرف بكثرة الأنهار حوله.
وصف لعدد من الآلات الميكانيكية المختلفة من ضاغطة، ورافعة، وناقلة، ومحركة. كما أنه وصف بالتفصيل تركيب الساعات الدقيقة التي أخذت اسمها من الشكل الخاص الذي يظهر فوقها: ساعة القرد، وساعة الفيل، وساعة الرامي البارع، وساعة الكاتب، وتعتبر ساعة الفيل الضخمة من أهم اختراعاته.
يعتبر أبو مهندسين الميكانيكا في العالم لما له الكثير من الاختراعات، والتي من أهمها أول من اخترع الإنسان الآلي المتحرِّك؛ حيث طلب منه الخليفة أن يصنع له آلة تغنيه عن الخدم كُلَّمَا رغب في الوضوء للصلاة، فصنع له الجزري آلة على هيئة غلام منتصب القامة كما وردت صورة الآلة في إحدى مخطوطاته.
مواصفات روبوت الجزري
ابتكر العالم الجزري روبوت على شكل خادم صغير. كان هذا الخادم يحمل إبريق ماء في يده اليمنى ومنشفة في يده اليسرى، بينما كان طائر يقف على عمامته. وعندما يحين وقت الصلاة، كان الطائر يصدر صوتًا، فيتحرك الخادم نحو سيده. ثم يصب كميةً محددة من الماء في الإبريق ليتوضأ سيده، وبعد الانتهاء يقدم له المنشفة، ثم يعود إلى مكانه المخصص.
يتميز روبوت الجزري، الملقب بـ "الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل"، بمجموعة من الخصائص التي جعلته علامةً فارقةً في تاريخ التكنولوجيا والهندسة.
- ذكاء اصطناعي مبكر: يتمتع الروبوت بقدرة فريدة على التفاعل مع المؤثرات الخارجية، مثل سكب الماء على يديه، مما يدل على فهم مبكر لمبادئ الذكاء الاصطناعي.
- تصميم دقيق: تم تصميم الروبوت بدقة عالية، مستخدمًا تقنيات ميكانيكية متقدمة في ذلك الوقت، مثل التروس والعجلات والبكرات.
- وظائف متعددة: لا يقتصر دور الروبوت على كونه دمية متحركة، بل هو قادر على أداء وظائف متعددة، مثل الوضوء وتقديم الماء والمشروبات.
رسم توضيحي لفتاة الجزري الآلية التي تقدم المشروبات
روبوت إلمر سبيري
يُعتبر المهندس الأمريكي إلمر سبريري (1860-1930) أحد الرواد البارزين في مجال الروبوتات، ويرجع الفضل له في اختراع العديد من الأجهزة والأنظمة التكنولوجية التي مثلت نقاط تحولٍ هامة. كان إلمر شخصية استثنائية، إذ لم تقتصر ابتكاراته على الروبوتات فقط، بل حقق إنجازات عظيمة في مجالات أخرى كالملاحة والنقل الجوي. فقد اخترع الجيروسكوب الحديث المستخدم في استقرار السفن العملاقة والملاحة الفضائية، بالإضافة إلى مصابيح القوس الكربوني عالية الكثافة التي أحدثت ثورة في الإنارة.
كان أهم إنجازات إلمر في تاريخ الروبوت تصميمه لأول نظام توجيه ميكانيكي يعمل بالدوران للسفن الحربية، وقد شكّل هذا الابتكار أساس أنظمة الملاحة البحرية المتطورة التي نراها اليوم.
أما في مجال المركبات ذاتية القيادة، فقد تمكن في عام 1908 من تسجيل براءة اختراع لأول نموذج لـ "مركبة موجهة"؛ كانت عبارة عن قارب بخاري صغير الحجم موجه عبر بوصلة مغناطيسية. وبالرغم من أن الهدف من تسجيل هذا الاختراع في ذلك الوقت كان إيجاد وسيلة إنقاذ آلية في حالات الطوارئ البحرية، إلا أن تصميم سبريري يُعتبر خطوة فارقة تمهيدًا للقفزات التي حدثت لاحقًا في مجال الروبوتات المتحركة ومركبات القيادة الذاتية. تأثير ابتكارات سبريري لم يقتصر على المجال العسكري والصناعي، بل ساهم أيضًا في إنقاذ الأرواح وتسريع وتيرة الابتكار في العديد من القطاعات.
تميزت "الذراع الآلية المبرمجة" التي اخترعها بقدرتها على نقل الأشياء وتكديسها وتنفيذ مهام صناعية تتطلب الدقة والتكرارية
روبوت جورج ديفول
يُعد المخترع الأمريكي جورج ديفول شخصية بارزة في تاريخ الروبوت العالمية، بل ويعتبره الكثيرون "أبو الروبوتات الصناعية". اشتهر ديفول باختراعه لـ "الذراع الآلية المبرمجة" (Unimate) عام 1954، والتي تعتبر أول روبوت صناعي حقيقي تم تصميمه وتطويره للاستخدام التجاري. كان ديفول شخصية استثنائية، وتشمل أبرز إنجازاته:
- اختراع "الذراع الآلية المبرمجة" (Unimate).
- تأسيس "يونيمايشن" (Unimation)، أول شركة روبوتات في العالم، رفقة الفيزيائي جوزيف إنجلبرجر.
- العمل في تطوير تقنيات الرادار للاستخدام العسكري في الحرب العالمية الثانية، حيث تبلور اهتمامه بالآلات الآلية.
الذراع الآلي Unimate
تميزت "الذراع الآلية المبرمجة" التي اخترعها بقدرتها على نقل الأشياء وتكديسها وتنفيذ مهام صناعية تتطلب الدقة والتكرارية. وبالرغم من بدايتها البطيئة إلا أن "يونيمايشن" بدأت تشهد رواجًا مع دخول شركة جنرال موتورز على الخط واعتمادها الواسع لروبوت "Unimate" في خطوط الإنتاج بالمصانع.
قد ساهم روبوت ديفول في زيادة الإنتاجية بشكلٍ كبير، وتحسين جودة المنتجات وتقليل مخاطر الحوادث الصناعية، مما أدى إلى ثورة هائلة في عالم التصنيع. لم تتوقف إنجازات ديفول عند ذلك الحد، بل واصل ابتكاراته المتتالية في مجال الروبوتات طوال حياته، واضعًا أسسًا صلبة لصناعة مزدهرة غيرت وجه العالم.
ختامًا في وسط هذه التقنيات المتقدمة لا يمكن إغفال أهمية صناعة أول روبوت في العالم كحدثٍ تاريخي لا يُنسى. فقد كانت هذه الخطوة الرائدة بمثابة نقطة تحول في تاريخ البشرية. إن تقدم صناعة الروبوتات يمثل نقلة نوعية في مجال الإبداع التكنولوجي، حيث أسهمت في تحويل أفكار الخيال إلى حقيقة ملموسة من خلال جهود المهندسين والعلماء المخلصين.
عندما تم إنشاء أول روبوت في العالم لم يكن مجرد جهاز آلي بل كان رمزًا للتفوق البشري وقدرته على الابتكار وتحقيق المستحيل. منذ ذلك الحين أصبحت الروبوتات شركاء حيويين في مجموعة واسعة من المجالات، بدءًا من الصناعة وصولًا إلى الطب واستكشاف الفضاء.
عرض المقال تاريخ الروبوت، فقد شهد عالم الروبوتات تطورًا متسارعًا وتشعبًا مذهلًا في التصميم والاستخدام. فمن الآلات البسيطة في المخطوطات القديمة إلى الروبوتات المعقدة والذكية اليوم، كانت هذه المسيرة في جوهرها مسيرة لاختراق الحدود وتحقيق المستحيل. لكن مع تطور الذكاء الاصطناعي بوتيرة مذهلة، ستصبح الروبوتات قادرة على التعلم والتكيفّ أكثر، لتخرج من حدود المصانع. وسنرى انتشارًا غير مسبوق للروبوتات الاجتماعية التي ترافقنا في منازلنا والأماكن العامة، تقدم الخدمات والرعاية وحتى الصحية! من الواضح أن هذه الآلات ستحدث خيارات عميقة في إعادة تشكيل حياتنا خلال العقود القليلة القادمة، سواءً من خلال مساعدة ذوي الاحتياجات الخاصة، أو في مجال التعليم، أو في استكشاف الفضاء، أو حتى في مكافحة أخطار التغير المناخي.