على الرغم من مسارعة الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، إلى تهنئة دونالد ترامب بفوزه في السباق الرئاسي، إلا أن مواقف الرئيس الأميركي المنتخب حيال المنظمة الأممية تعد سلبية جدًا، ولذلك تسود حالة من القلق داخل أروقتها من عودة ترامب، المعروف بـ"عدائه للمؤسسات والاتفاقيات الدولية".
ويعد ترشيح ترامب، الإثنين الماضي، ممثلة شمال ولاية نيويورك في الكونغرس، إليز ستيفانيك، لتكون مندوبة واشنطن بالأمم المتحدة؛ مؤشرًا على طبيعة السياسة التي سينتهجها. فستيفانيك، بحسب مجلة "فورين بوليسي"، معروفة "بانتقادها المستمر للمنظمة بدعوى أنها معادية للسامية ومتحيزة ضد إسرائيل".
ودعت ستيفانيك، مطلع تشرين الأول/أكتوبر الماضي، إلى "إعادة تقييم كامل لتمويل الولايات المتحدة للأمم المتحدة".
وبالتالي، فإنه من المنتظر أن ينتهج دونالد ترامب السياسة المتشددة نفسها التي تبناها خلال ولايته الأولى في ولايته الثانية، التي تبدأ في كانون الثاني/يناير المقبل، حيث عُرف عن ترامب هجومه الشرس على مؤسسات الأمم المتحدة وعلى عدة اتفاقيات دولية ترعاها، الأمر الذي دفعه إلى تجميد المشاركة المالية لبلاده في عدة برامج للمنظمة، كما دفعه الموقف السلبي منها إلى الانسحاب من عدة هيئات واتفاقيات أممية.
قد تكون واشنطن رابحة بمنطق الحسابات الاقتصادية من وراء وقف التمويل عن مؤسسات الأمم المتحدة، لكنها خاسرة بالضرورة بمنطق الحسابات السياسية والدبلوماسية
ففي ولايته الأولى، انسحب ترامب من منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم "يونيسكو"، ثم أوقف التمويل الأميركي لصندوق الأمم المتحدة للسكان، وزاد الطين بلة بالانسحاب من مجلس حقوق الإنسان الدولي، وبرفضه الانضمام إلى الاتفاقية الدولية حول الهجرة. بل ووصل به الأمر إلى حد فرض عقوبات على أعضاء في المحكمة الجنائية الدولية، ووقف تمويل وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا"، وعدم دفع مستحقات قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة.
لم يكتف ترامب بذلك، فقد انسحب من اتفاقيات أخرى رعتها الأمم المتحدة، أهمها اتفاقية باريس للمناخ، والاتفاق النووي الإيراني. كما رفض عام 2020 الانضمام إلى مبادرة "كوفاكس لتوفير اللقاحات".
وبناءً على هذه المعطيات، يعتقد ريتشارد غوان، وهو مسؤول قضايا الأمم المتحدة في منظمة "مجموعة الأزمات الدولية"، أن دونالد ترامب "سينسحب مرة أخرى من العديد من اتفاقيات الأمم المتحدة والمنظمات التي قاطعها خلال فترة ولايته الأولى، كاتفاقية باريس للمناخ على سبيل المثال، ونتوقع أنه سيقاطع مجلس حقوق الإنسان وغيرهما".
وكان الرئيس الحالي، جو بايدن، قد أعاد عضوية بلاده في العديد من المؤسسات والاتفاقيات التي انسحب منها ترامب، بما في ذلك اتفاقية باريس للمناخ. كما تراجع عن مطلب الانسحاب من منظمة الصحة العالمية الذي تقدم به ترامب، وشهد العام الجاري عودة واشنطن إلى منظمة الـ"يونيسكو"، واستئناف واشنطن تمويلها لصندوق الأمم المتحدة للسكان الذي أوقف ترامب تمويله. لكن إدارة الديمقراطيين سجلت وقف التمويل عن "الأونروا" بذريعة مشاركة بعض العاملين في هجوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر. وبالتحقيق من طرف الأمم المتحدة في هذا المجال، توصل المحققون إلى أنه "لا توجد أدلة تدعم الادعاءات الإسرائيلية".
سياسة تجفيف المنابع
إن ما يقلق المسؤولين في الأمم المتحدة، وعلى رأسهم أنطونيو غوتيريش، من سياسة ترامب هو قطعه التمويل عن العديد من المؤسسات التنموية، لأن ذلك سيقتضي أن يزيد المانحون من مساهماتهم، وتتجه الأنظار هنا أساسًا نحو أوروبا والصين "لمحاولة سد الفجوة المالية الكبيرة التي سيخلفها غياب التمويل الأميركي".
أميركا تخسر أيضًا بنهجها المناوئ للأمم المتحدة
قد تكون واشنطن رابحةً بمنطق الحسابات الاقتصادية من وراء وقف التمويل عن مؤسسات الأمم المتحدة، لكنها خاسرة بالضرورة بمنطق الحسابات السياسية والدبلوماسية. فانسحاب ترامب من مؤسسات الأمم المتحدة يعني خسارة نفوذها في تلك المنظمات. ولأن السياسة كما الطبيعة لا تحتمل الفراغ، فستكون القوى المنافسة هي المستفيد الأول.
وليس من المستبعد أن تعمد الصين إلى استغلال هذا الفراغ الأميركي في الأمم المتحدة لتزيد من نفوذها، علمًا بأن الصين سبق وحاولت حسب ريتشارد غوان "تقديم نفسها باعتبارها قيادة جديدة للتعددية الدولية"، معتبرًا أن إدارة ترامب القادمة "ستعطي الأولوية للحد من النفوذ الصيني في الأمم المتحدة، وهذا أمر يتفق عليه الحزبان الجمهوري والديمقراطي. لذا، أتوقع أن تتزايد التوترات بين الصين والولايات المتحدة حول نظام الأمم المتحدة، على الرغم من أنها متوترة أصلًا"، وفق تعبيره.
وبالنظر إلى التركيز الأوروبي على أوكرانيا وتقوية صمود حلف شمال الأطلسي المعرض هو الآخر لتوترات مع عودة ترامب، يغدو من المستبعد أن يعوض التمويل الأوروبي الفراغ المالي الأميركي، الأمر الذي يجعل المجال مفتوحًا أمام الصين لملء الفراغ ومراكمة النفوذ داخل أروقة المنظمة الأممية ومؤسساتها المتعددة.