دائمًا ما عرف ارتداء الجلباب والتلويح بالسبحة والسواك يمسكه الإصبع وترك اللحية على الوجه بالمظهر السلفي، أي مظهر السلف من الصحابة وأتباعهم إلى عصرنا الحديث، ودائمًا ما كانت السلفية الأصولية "الدينية" بمختلف أدبياتها هي محل بحث ونقاش على الساحة الأيديولوجية والسياسية في التاريخ المصري المعاصر، تسلط هذه المقالة الضوء على السلفية المعاصرة في مصر، نشأتها وأيديولوجيتِها ومن طرحها على الساحة المصرية من جديد وإلى أين تفرقت الفرق منها؟ وتأخذ من السلفية العلمية مثالًا، على صعيد أفكارها وهيكلها التنظيمي وموقفها من المجتمع والأحزاب والجماعات الأخرى والنظام المصري وإلى أين استقرت في ظل تداعيات السياسة والثورة المصرية.
بدأت قصة السلفية المصرية عندما انتقل رائد السفلية في مصر الحديثة محمد رشيد رضا، إلى القاهرة حيث بدأت أفكاره المتبعثرة من الأصولية السلفية القديمة لابن حنبل وتلميذه ابن تيمية تُلملم نفسها
محمد رشيد رضا والسلفية المعاصرة
بدأت القصة عندما انتقل رائد السفلية في مصر الحديثة محمد رشيد رضا، إلى القاهرة حيث بدأت أفكاره المتبعثرة من الأصولية السلفية القديمة لابن حنبل وتلميذه ابن تيمية تُلملم نفسها بعدما اختلط الرشيد مع أستاذه ورائد التجديد بشأن الخطاب الإسلامي الإصلاحي ومفتى الديار المصرية آنذاك الإمام محمد عبده، وكان خطاب الأول وأفكاره تتغلغل في عقل الإمام بعمق، لاسيما أن الأوساط الإسلامية كانت بحاجة إلى منهج تجديدي وسط صعود الرايات الليبرالية والعلمانية الصلبة القادمة من الغرب، متأثرًا بها أبناء مصر من الزعماء الوطنيين والقوميين. وقد طغت على الرشيد مبادئ الإصلاح الديني ومساهمته في توعية المجتمع ومؤسساته ونخبه وابتعد عن السلفية الأصولية الكلاسيكية التي كان يراها هو وأستاذه أنها جامدة لا تقبل الاجتهاد، بينما فيها كثيرٌ من المسائل قد تخالف العقل، ولم يكن الرشيد الرجل الأول في ريادة السلفية الإصلاحية، بل سبقه الشيخ الكبير "جمال الدين الأفغاني"، والإمام محمد عبده، بينما كان رضا في تلك المرحلة لا سيما بعد موت الأفغاني بمثابة ناقل للفكر خطيبًا جيدًا للفكر الجديد الإصلاحي.
وعندما بحث الرشيد عن منبر يعلو صداه للتعبير عن تلك الأفكار المبعثرة بين عقول المصريين وسط الزخم الليبرالي والعلماني في الساحة المصرية، أنشأ مجلة المنارة في عام 1898، التي أصبحت منبرًا لتجديد الخطاب الديني ومناقشة أفكار الإمام محمد عبده والشيخ الأفغاني وتقديم صورة خطابية جديدة للإسلام تبحث سبل النهضة والتمدن والتقدم في شؤون الأمة عامة، وظل الخطاب الدعوي في المجلة هكذا إلى أن توفى الإمام محمد عبده عام 1905، حتى انقلبت الأفكار رأسًا على عقب واتجهت البوصلة السلفية من التجديد والإصلاح والتمدن إلى الاهتمام بعقيدة المسلم وتصحيحها إن ضلت، والالتزام بأحكام الشريعة الإلهية والسعي لإقامة خلافة إسلامية تحكم نظام الدولة على منهاج النبوة. وعلى الرغم من التقارب الذهني لمحمد عبده والرشيد في الهجوم على البدع الذي اختلقتها الصوفية من الشرك بالله عن طريق الأولياء وشفاعتهم والتبرك بهم، وزيارة القبور إلى ما ذلك من الطرق التي اعتبروها ضالة، إلا أن الرشيد كان أعلم وأكثر اهتماما بمنهج السلف وتفسير الآيات مضمونًا وحكمًا لها من مُعلمه الإمام، بل قال في الجزء الأول من تفسير المنار عن الإمام: "وإني لما استقللت بالعمل بعد وفاته خالفت منهجه رحمه الله بالتوسع فيما يتعلق بالآية من السنة الصحيحة سواء كان تفسيرًا لها أو حكما لها"، وتطرق الرشيد إلى من قال إنهم يشركون بالله عن طريق الأنبياء بزعمهم أنهم آلهة أو أنهم يملكون التصرف في الخلق والكون، فوصفهم بالمشركين الجاهلين بآيات الله وربوبيته وتوحيده ولا خلاص لهم إلا أن يرجعوا إلى معنى التوحيد الحقيقي، وتعليمهم وظائف الرسل أنهم بشرًا اختصهم الله برسالته ليُبلغوها للأمم أمثالهم. بدأ الرشيد ينفرد بالساحة السلفية الإصلاحية في مصر في بدايات القرن العشرين وبدأت مجلة المنار يرن صداها في أذن المتابعين لها، حتى بدأت الاتهامات تأتي له من كل جانب أنه يحمل فكرًا غير إصلاحي بل أنه وهابي الأفكار نسبة للوهابية السعودية، وأنه يسعى لتقليد النموذج السعودي الجديد القائم على أساس سلطة دينية وهابية مع سلطة تنفيذية ملكية على الأساس الديني. فما علاقة رضا بأفكار الوهابية السعودية؟
اقرأ/ي أيضًا: عزمي بشارة "في الإجابة عن سؤال: ما السلفية؟".. راهن المفهوم وسياقه التاريخي
رضا والوهابية
بدا ظاهرًا أمام الجمع أن الخلافة العثمانية كالسيل لا سبيل لنهضتها مرة أخرى، فرأى الرشيد الدولة السعودية خير بديل للخلافة العثمانية، بل خير دولة ترعى مفاهيم الإسلام وتحارب المفاهيم المعادية له سواء كانت مفاهيم دنيوية مغالطة أو دينية تبشيرية، فبدأ بالمدح والثناء على أفكار الدعوة الوهابية وشيخها وأصبحت مجلة المنار هي لسان الوهابية في مصر، فكتب الرشيد بها عدة مقالات تمدح الفكر الوهابي وتمدح أمراء آل سعود، وتلعن وتسب في أمراء مكة الذين وصفهم بالضالين. وذكر أسباب زحف أبناء نجد إلى مكة معللًا أن أمراء مكة وعلى رأسهم الشريف "حسين بن علي" كانوا يوالون الدولة البريطانية في انتداباتهم على الدول العربية، وكانوا يصفقون للغرب على الاعتداء على الدول العربية والإسلامية ونهب أموالهم ومقدساتهم واحتلالهم وفرض الهيمنة على الإنسان العربي المسلم، ووصف الملك حسين الذي أطلق على نفسه ملك العرب بأنه موظف باغي لدى الحكومة البريطانية، يأتمر بأوامرهِم وينفذ أجندتهِم في المنطقة ويعتدي على سكان نجد، وغيرها من المناطق التي لا تقع تحت مظلة حكمه، وأنه شر ضرر للإسلام والمسلمين إن استمر في حكم الحجاز، وأخذ الرشيد يكتب عن إصلاحات الوهابية في الدولة السعودية الجديدة بعد قيامها وأنها حاربت البدع والخرافات التي كانت تفشت في عقول المسلمين هناك، فأعادتهِم إلى مسار المسلم المؤمن سليم العقيدة. فدافع محمد رشيد عن منهج الوهابية في تصوراتهم عن الإسلام، وعن آل سعود في دفاعهم عن مكة وسياساتهم في إعادة الدولة الإسلامية مرة أخرى. وتأسست في تلك الحقبة عدة فرق وجماعات ذات مرجعية سلفية أيضًا.
جماعة أنصار السنة المحمدية
تأسست في عام 1926 على يد العالم الأزهري محمد حامد الفقي، وكانت بمثابة رادع قوي للصُوفية المنحرفة عن منهج السلف وكانت تهاجم البدع والخرافات السائدة آنذاك، ومن أدبيات الجماعة أيضًا إقامة حكم إسلامي بالنص الدستوري الإلهي بلا تشريع لأي إنسان فيه، لأن الله يريد المنفعة للناس وبالرغم من ذلك، فإنها لا تتدخل في السياسة كثيرًا، كما أسست الجماعة فروعًا لها في محافظات مصر، ولها أيضًا عشرات المساجد والجمعيات الأهلية والخيرية التي تتبعها مباشرة إداريًا وماليًا وتصدُر عن الجماعة مجلة التوحيد وهي لسان الجماعة الإعلامي.
الجمعية الشرعية لتعاون العاملين بالكتاب والسنة
أسسها الشيخ محمود خطاب السبكي لتصبح جمعية رسمية في عام 1913، وهي تهتم بالأمور الشرعية ودروس الفقه والعقيدة السليمة للمسلم وأمور العبادات وغيرها من مسميات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد أصدرت الجمعية مجلتين الأولى بعنوان الاعتصام والثانية باسم التبيان ولها فروع عدة بمُحافظات مصر وتسيطر على آلاف المساجد التابعة لها، وعلى جمعيات أهلية وخيرية أيضًا، غير أن موقفهم من الصوفية غير عدائي مثل أنصار السنة المحمدية.
تقف الدعوة السلفية دائمًا في صف النظام الحاكم!
كان النصف الأول من القرن العشرين هو بداية إحياء السلفية التقليدية ولكن بشكل جديد يتميز بالهجوم على الصوفية المنحرفة، ويتقارب بعض الشيء في أدبياته من السياسة وإقامة حكم إسلامي قائم على التشريع الإلهي لامتِزاجه ببعض الأفكار الوهابية التي أقامت الدولة السعودية على هذا المنوال، ولم تلق تلك التنظيمات محاربة من النظام الملكي مع عدم إهمال مراقبتها بالتوازي، ولم تتفق تلك التيارات والجمعيات السلفية الجديدة مع صعود التيار السلفي الإصلاحي متمثلا في الإخوان المسلمين وتباعدت كل البعد بل هاجمت التيار السلفي الجهادي الذي تشعب من التيار الإصلاحي بعد عام 1966م وإعدام سيد قطب ورفاقه.
وظلت تلك السلفية بفروعها قائمة إلى الآن بل تجددت الدماء في فكرها في سبعينات القرن الماضي بتأسيس الدعوة السلفية في محافظة الإسكندرية التي تُعرف باسم السلفية العلمية.
الدعوة السلفية.. مسجد وبرلمان
بدأت الدعوة السلفية أو المدرسة السلفية كما كان يطلق عليها في أول نشأتها، في أواخر السبعينيات (1978) ومع الزخم والصعود الإسلامي في مواجهة المد اليساري الشيوعي. أسس عدد من الطلاب في جامعات مصر بعد انشقاقهم من الجماعة الإسلامية حركة تعرف بالسلفية العلمية وكان التكتل الأكبر لأفرادها في جامعة الإسكندرية وكان من أبرز قادتها وإلى الآن هم محمد إسماعيل المقدم. وسعيد عبد العظيم وأحمد فريد وأطلقوا على أنفسهم المدرسة السلفية، وقد رفضوا الانضمام إلى حركة الإخوان المسلمين حيث كانت تُلملم جراحها بعد زمن عبد الناصر الأسود لهم، وكانت تصارع الجماعة الإسلامية في استقطاب طلاب الجامعات إلى منهجها وفكرها الحركي، فاشتد الصراع بين المدرسة السلفية الجديدة والإخوان المسلمين والجماعة الإسلامية في استقطاب الشباب إلى تنظيماتهم، ولكن بعد أن ذاع صيت السلفية بين الجماهير وبدأ صوتها وأفكارها يدخل القرى والأحياء غيرت اسمها لتصبح "الدعوة السلفية".
اقرأ/ي أيضًا: التدين الأمريكي.. كيف يؤمن الملحدون؟
الفكرة والمنهج
كانت أفكارهم أكثر التزاما ممن سبقوهم باعتناق نهج السلف الصالح، ترى الدعوة السلفية أن المعضلة تكمن في الآية القرآنية "إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ"، فالتغيير المنتظر للأمة الإسلامية وإقامة شريعة الله في الأرض تتوقف على تغيير الإنسان لنفسه وتقويمها ومجاهدتها بطاعة الله من صوم وصلاة وعبادة دائمة لله، والابتعاد عن المنكرات والفواحش ومظاهر الحداثة الغربية من "عريٍ وجنس وشذوذ"، ويأتي كل هذا عن طريق التعلم من المشايخ وحفظ علمهم الغزير عن طريق السماع للدروس الوعظية وحلقات العلم في المساجد والمواظبة على حضور خطب الجمعة، والالتزام بمشاهدة البرامج الدينية لمشايخ السلفية المعاصرة كالشيخ محمد حسان ومحمد حسين يعقوب وغيرهم، كما أنهم من أشد محاربي الصوفية وبدعها كغيرهم من السلفية، وهم من رافضي الدخول في العمل السياسي الحزبي من انتخابات رئاسية وبرلمانية وهم ينتهجون منهج الشيخ الألباني، في مرحلتي التصفية والتربية، وهو أن يقوم العلماء بتصفية وتنقية الكتب الشرعية ونزع ما هو ضعيف وموضوع من أحاديث وأحكام غير صحيحة. ثم بعد ذلك التربية والتفقه بكتب ومراجع أكثر دقة و التزاما بنهج السلف.
الهيكل التنظيمي
ويتكون الهيكل الإداري للدعوة السلفية من ثلاث مستويات.
1- مجلس شورى الدعوة، وهو السلطة الأعلى للدعوة ويتكون من 200 عضو من كوادر الدعوة ومشايخها.
2- مجلس أمناء الدعوة وهو عبارة عن مشايخ الدعوة القدامى المؤسسين لها، وعضويته دائمة حتى الموت، وهي هيئة رقابية غير تنفيذية وقد تم تشكيلها بعد ثورة يناير، ومن هؤلاء ( محمد إسماعيل المقدم - ياسر برهامي - أحمد فريد)
3- مجلس إدارة الدعوة ويحوي 15 عضوا يتم انتخابهم بواسطة مجلس الشورى، ويتولى هذا المجلس إدارة وتنفيذ الأعمال الإدارية وكافة القرارات والمشاريع التنفيذية الخاصة بخدمة الدعوة.
ديموغرافيا للدعوة
وصلت الدعوة السلفية في كل أنحاء مصر، ولكن تكتلات الدعوة في محافظات تستقر بالوجه البحري (الإسكندرية - مرسى مطروح - الغربية - كفر الشيخ - البحيرة) ثم تأتي بعد ذلك القاهرة الكبرى والدقهلية ودمياط والإسماعيلية، ثم الأقل تواجدًا بالسويس وبورسعيد وسيناء.
كما أن الدعوة اتخذت عدة مواقع ومنابر إعلامية لها كموقع أنا السلفي وصوت السلف وشبكة الفتح الإسلامي وجريدة الفتح، لتكون منبرا لأهم بيانات الجماعات الصادرة لتقديرات المواقف والأحداث وطرح أهم الفتاوى الشرعية والأفكار الحركية لدى الدعوة.
السلفية والمدخَلية.. ما هو الاختلاف؟
صدرت السعودية إلى مصر خلاف السلفية والمدخلية الذي نشبَ هُناك إبان حرب الخليج الثانية ليصبح الخلاف ممثلا على المسرح الشرعي بينهما في عدة مسائل أهمها:
- طاعة الحاكم وعدم الخروج عليه ومنع تكفير الحكام لأن المدخلية يرفضون حتى النصح علانية للحاكم من أولي العلم، بل يجب إعطاء النصيحة سرًا، وفي كل الأحوال والظروف لا يجوز الخروج على الحاكم حتى إن جلد الظهر وأخذ المال. وتناول برهامي في كتابه فقه الخلاف بين المسلمين أن الطاعة التي يجب أداؤها من المسلم هي طاعة الخليفة الذي يتولى باسم الدين لإقامة الدنيا بالدين، وأما ما عدا ذلك تكون الطاعة حيث وجدت مصلحة المسلمين. ويطعن في فقه المداخلة في تلك الجزئية تجاه الحاكم وتعتبر السلفية العلمية هي الأقرب من مذهب المداخلة مقارنة بالسلفية الإصلاحية أو الجهادية التي في غالب الأحوال تكفر حكام العرب والمسلمين كافة.
- تتميز الدعوة السلفية بمادتها البشرية حيث أن أعدادهم تقدر بمئات الألوف، حيث تساوي أضعاف أعداد الجماعة الإسلامية وغيرها من الجماعات الإسلامية الحديثة، ولكنهم يفتقدون التنظيم الهرمي الأكثر تشابكًا كما في الإخوان المسلمين، بل كل مجموعة من أعضائها يتبعون فتاوى وأقاويل شيخ بعينه كمحمد حسان أو محمد حسين يعقوب وياسر برهامي وغيرهم من مشايخهم، وتعمل الجمعية الشرعية وأنصار السنة المحمدية بالتعاون مع الدعوة السلفية بالاشتراك في الجمعيات الخيرية واعتماد الأولى والثانية على مشايخ الثالثة في الخطب والمحاضرات وغيرها، فأهداف الثلاثة متقاربة جدًا بلا اختلاف، بل ويشتركون الثلاثة في الابتعاد عن السلفية الجهادية التي تأسست وبرز اسمها بعد حادثة اغتيال السادات، وعن التيار الإسلامي الإصلاحي أيضا كالإخوان المسلمين، فظلوا منذ النشأة بعيدون كل البعد عن السياسة ومآلات الحكم، إلا أن حدثت ثورة 25 يناير فتباينَت استراتيجية الدعوة السلفية في إدارة دعوتها.
وصلت الدعوة السلفية في كل أنحاء مصر، ولكن تكتلات الدعوة في محافظات تستقر بالوجه البحري كانت أنشط
الدعوة السلفية وثورة يناير
ظلت الدعوة السلفية في نشاطها الذي بدأ في التمدد والانتشار بشكل أكبر في بدايات حكم مبارك، مبتعدة على الصراع الخشن والناعم الذي تبناه النظام الأمني المصري مع الجماعات الإسلامية الإصلاحية والمسلحة.
- الصراع الناعم كان مع جماعة الإخوان المسلمين حيث بدأت الجماعة في عملها الحزبي ودخولها البرلمان بمقاعد قليلة، ولكن كان النظام المصري يتوعدها ببعض المضايقات الأمنية الخفيفة كاعتقالِ بعض قادتها أثناء المرحلة الانتخابية.
- الصراع الخشن كان مع الجماعة الإسلامية وجماعة الجهاد، حيث كانت المواجهة بين الطرفين مسلحة حتى قضى الأمن المصري على جماعة الجهاد، وقامت الجماعة الإسلامية بإطلاق مبادرة وقف العنف بعد طرحها المراجعات الفكرية من داخل السجون.
بينما الدعوة السلفية كان لا يشغل بالها الدخول في الصراع السياسي بل كانت تلتزم دعوتها بين جدران المساجد، منشغلة بإصلاح النفس وإدانة العنف ومحاربة الشهوات والمظاهر الغربية الفاحشة والبدع الصوفية المنحرفة، وعلاقتها بنظام مبارك كانت علاقة تأييد ودعم متبادل بين الطرفين، حتى جاءت أحداث ثورة يناير 2011.
كان يرى عضو مجلس شورى الدعوة السلفية ياسر برهامي عن السياسة وتساؤلاتها أنها لعبة مليئة بالقاذورات والنفاق والمصالح التي وصفها بالميكيافيليةِ وأنها فتنة لمن ينزلق فيها. في بداية دعوات المظاهرات للنزول يوم 25 يناير، رفضت الدعوة السلفية النزول ودعت أبناءها لعدم الاستجابة لتلك الدعوات التي رآها شيوخ الدعوة أنها غير مُجدية للنفعِ بل مهلكة ولا تصب في مصلحة العباد والبلاد. إلا أن تفاجأ الجميع ونجحت ثورة يناير في تنحي مبارك وحكومته وتولى المجلس العسكري إدارة شؤون البلاد لحين تسليمها لإدارة مدنية تحقق مطالب الثورة. تغيرت الفتاوى حينها من التحريم إلى جواز تأسيس الأحزاب السياسية والمشاركة في مجالس الدولة بحجة أن الدولة المصرية الآن أكثر حرية وأقل قمعًا وقد آن أوان الدولة الإسلامية أن تقوم، فتَحالفت الدعوة السلفية مع الإخوان المسلمين في تلك المرحلة الانتقالية في وجه المد الليبرالي واليساري في الاستحقاقات الدستورية.
اقرأ/ي أيضًا: التراث الصوفي وتجديد الخطاب الديني
تأسيس حزب النور
تأسس حزب النور في 12 يونيو/ حزيران من عام الثورة، بعد أن أقرت لجنة شؤون الأحزاب بالموافقة على تأسيسه وترأسه د. عماد عبد الغفور، ليصبح هذا الأخير منافسًا شديدًا على الساحة السياسة المصرية لأكبر الأحزاب المصرية داخل المعترك التنافسي.
أهداف الحزب
ركز الحزب في برنامجه على ثلاث نقاط أساسية:
1- الهوية والثقافة: وهي التأكيد والاعتزاز بهوية مصر وهي هوية إسلامية عربية نظرًا لاعتناق غالبية الشعب المصري للدين الإسلامي ويجب الحفاظ على اللغة العربية كلغة أولى للشعب المصري في المناهج التعليمية، وكذلك مبادئ الشريعة الإسلامية هي مصدر التشريع في دستور مصر الجديد.
2- محاربة الفساد السياسي والاقتصادي في ظل الثورة وحريتها التي سمحت لكافة الأحزاب في التعبير عن أفكارها ومنهجها السلمي في التغيير والإصلاح، وبالمشاركة النيابية والرئاسية في الاستحقاقات الدستورية بإرادةِ الشعب المصري الحر، والعمل على حسن استغلال واستثمار ثروات الأرض المصرية الغنية من معادن وغاز ومعبرٍ مائي وقدرة بشرية عقلية رائعة وموقع جُغرافي مُتميز.
3- الفساد الأمني وهو محاربة الجهاز الأمني وتطهيره، وهو الجهاز الذي استخدمه نظام مبارك لثلاث عقود كآلة لقمع المعارضين والأخيار من أبناء مصر ولحماية تزوير الانتخابات لصالح الحزب الحاكم ولحماية السارق من أيدي الأمين.
مرَّ حزب النور بمرحلتين منذ تأسيسه ووضوح رؤيته بعد نجاح الثورة وتنحي مبارك.
الأولى: عندما بدأت الأفكار المصرية في تأسيس الأحزاب والأذرع السياسية لخوض الانتخابات. وكان من أهم تلك الأذرع حزب الحرية والعدالة التابع لجماعة الإخوان المسلمين، وخاض حزب النور الانتخابات البرلمانية ضمن تحالف الكتلة الإسلامية الذي كان يجمع معه حزب البناء والتنمية الذراع السياسي للجماعة الإسلامية وحزب الأصالة ذات المرجعية السلفية، ليفوز مرشحو النور بـ 108 مقعدًا بالمجلسِ أي ما يقارب 20 % من إجمالي المقاعد، لِيكتسح التيار الإسلامي مجلس الشعب ثم يأتي بعد عام ونصف من الثورة رئيس من جماعة الإخوان المسلمين على سدة الحكم، ليثبت الإسلاميين قدرتهم على التعبئة الشعبية المؤيدة لهم بشتى اختلافاتهم.
ظلت الدعوة السلفية في نشاطها الذي بدأ في التمدد والانتشار بشكل أكبر في بدايات حكم مبارك، مبتعدة على الصراع الخشن والناعم الذي تبناه النظام الأمني المصري مع الجماعات الإسلامية
الثانية: أثناء اندلاع أحداث 3 تموز/ يوليو من عام 2013 وقيام الجيش بعزل الرئيس الإخواني، فكان موقف حزب النور مؤيدًا عزل مرسي وتولي الجيش بقيادة عبد الفتاح السيسي زمامِ البلاد، لينفصل مرة أخرى حزب النور عن تحالفاته مع الإسلام الإصلاحي كالإخوانِ والجماعة الإسلامية بعد أن تحالف معهم في الاستحقاقات الدستورية، وأكمل المشوار وحيدًا بين التيارات الإسلامية مع النظام الجديد الذي أيده بشدة، وأيد الحزب انتخاب عبد الفتاح السيسي رئيسًا لمصر لفترتين رئاسيتين وشارك في الاستحقاقات الانتخابية وقد فاز بـ 12 مقعدًا برلمانيًا في عام 2015.
السلفية والمجتمع
منذ نشأة التيار السلفي المعاصر في بدايات القرن الماضي إلى تيارات السلفية الحديثة باختلافاتها في سبعينيات وثمانينيات القرن ذاته، لقى ترحيبًا كبيرًا من فئات وشرائح كبيرة لدى المجتمع المصري، فقُدرت أعداد الدعوة السفلية ومؤيديها بمئات الآلاف فضلا عن مئات الآلاف من أعضاء السلفية المدخلية والحركية وجماعة التبليغ والدعوة والجماعة الإسلامية والإخوان والصوفية، وكل تلك الحركات تدخل تحت إطار السلفية، ويرجع ذلك الانتشار الواسع داخل المجتمع المصري لعدة أسباب:
1- أغلبية الشعب المصري يعتنق ديانة الإسلام لذلك يتأثرون بمظاهره السلفية من جلباب ولحي وغير ذلك.
2- قوة تأثير وانتشار الحركات السلفية عن طريق المساجد والجمعيات الخيرية والأهلية وغيرها، وحاجة المجتمع للانضمام إلى جهة ترعاهم تنظيميًا وفكريًا وربما ماديًا، ويرجع ذلك لقصور مجهودات الدولة لرفع مستوى الفقر عند المجتمع، فتكون عملية الاستقطاب سهلة وغير معقدة.
3- الانتشار الأكبر داخل القرى والأرياف المصرية.
خاتمة
نستخلص من خلال المحاور التي سلف ذكرها أن السلفية التي بدأ إحياؤها محمد عبده وتلميذه محمد رضا لم تكن في بدايتها سلفية قديمة، بل كانت تتماشى مع التمدن والتحضر وتناقش كيفية التعايش السلمي مع التغريب القادم إلى بلاد الشرق، ولكنها ما انقلبت سريعًا لِتتمازج مع السلفية الوهابية القائمة في أرض الحجاز ونجد، ومنها تبعثرت الجمعيات والمنظمات التي ترعى الأفكار والأنشطة في مصر.
السلفية بكل تفرعاتها وصورها تحارب الصوفية المصرية وطرقها التي سمَّتها الطرق المنحرفة المشركة بالله. كما أن السلفية العلمية المتمثلة في الدعوة السلفية وجميع الأنشطة التابعة لها لا تؤيد السلفية الجهادية بل تطعن في مرجعيتها الشرعية نحو الجهاد والخروج على الحاكم بالقوة، ولكنها تقف على مسافة أقرب مع السلفية الإصلاحية التي تشارك الدولة في بناء المؤسسات، وتختلف أيضًا مع المذهب السلفي المدخلي لكونه يحرم الخروج على الحاكم في جميع الأحوال.
تغير منهج الدعوة السلفية بعد الثورة فأسست الأحزاب ونافست في المعتركات السياسية التي كانت تصفها بـ الفتنة التي يقع فيها المؤمن. كما تقف الدعوة السلفية دائمًا في صف النظام الحاكم ولكن زادت أماكن الوقوف فمن المسجد وخطب الجمعة فقط إلى البرلمان والدساتير والقرارات السياسية.
للسلفية بكافة فروعها لها زخمٌ شعبي هائل لدى المجتمع المصرية لاسيما القرى والمناطق الريفية، ولكنها بدأت في فقدان ثقة فئة كبيرة من الشباب، ويرجع ذلك لازدواجية المناهج والفتاوى والمواقف التي تحدث من حين لآخر.
اقرأ/ي أيضًا: