أيًّا كانت الخطط لقضاء أمسية الجمعة، عشاء عائلي أو موعد غرامي أو حضور حفلٍ، أو حتى استلقاء على الأريكة ومشاهدة الأفلام، لم تنقضِ ليلة الثامن من أيلول/سبتمبر كما قرّر سكان مراكش وما حولها؛ نُسفت الخطط ومعها الأرض والمباني من حولهم بزلزال هو الأعنف منذ أكثر من قرن، بقوة 6.8 درجاتٍ على مقياس ريختر، وحصيلة قتلى تقترب من الثلاثة آلاف يساويهم عدد الجرحى، وأضعافهم من المنكوبين.
ومنذ اللحظات الأولى للكارثة، انهمرت أخبارها على الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، من إحصائيات أولية إلى صور ومقاطع توثّق ما حدث ويحدث. وفي هذه الأوقات تبرز الحاجة للسرعة في التغطية، حيث قد تُحدَّد مصائر عشرات الأرواح خلال الدقائق القليلة الفاصلة بين إطلاق النداء الأول وبين وصول المراسل لتغطيته كخبرٍ صحفي ومعه مُستجيبي الخطوط الأولى.
لكن على الجانب الآخر، ولأن مستخدمًا عاديًا يملك هاتفًا عاديًا باتصال إنترنت ذي جودة عادية يستطيع النشر جنبًا إلى جنب مع أكبر المؤسسات الصحفية ووكالات الأنباء حول العالم في نفس الحيّز، ولأن سرعة انتشار الأخبار ككلّ تتضاعف في الأوقات الحرجة، ولأن سرعة انتشار الأخبار الزائفة تفوق تلك الحقيقية بستّة أضعاف، شغل المحتوى الإعلامي المضلل خلال الكارثة حيّزًا يستحق الوقوف عنده.
عاد الحديث عن "مشروع هارب" وقرائنه من المشاريع مجهولة المصدر الرامية إلى استهداف حضارتنا وتدميرها، وذلك بسبب الوميض الأبيض المائل إلى الزُرقة الذي ظهر في بعض المناطق لحظاتٍ قبل وقوع الكارثة
لحسن حظ الساعين وراء الأسهم الخضراء الصاعدة نحو الأعلى المعبّرة عن معدلات الوصول والتفاعل، وسوء حظ جميع من تبقى، فإن الجرح لم يندمل بعد من زلزال شباط/فبراير الذي ضرب تركيا وسوريا، ما يعني آلاف الصور والمقاطع التي تُظهر أضرارًا لحقت بمدن وشوارع تشبه بهويّتها المناطق المنكوبة حديثًا، القابلة لإعادة التداول وتلقّيها طوفان تفاعلات الـ"أحزنني".
ليس ذلك النوع الأخطر على أية حال، فالشوارع شُقَّت والسيارات تكسّرت والمباني هُدّمت على أية حال، بل هناك النوع الآخر الذي يلقي بمصيبة فوق التي وقعت ويزرع الخوف والشكّ، ومعهما يسمّد بذور نظريات المؤامرة.
وأبرز مثالٍ في سياق زلزال المغرب هو عودة الحديث عن "مشروع هارب" وقرائنه من المشاريع مجهولة المصدر الرامية إلى استهداف حضارتنا وتدميرها، وذلك بسبب الوميض الأبيض المائل إلى الزُرقة الذي ظهر في بعض المناطق لحظاتٍ قبل وقوع الكارثة، وشوهد سابقًا في زلزال تركيا.
من المؤكد أن الإعلام ليس الوالدة ولا الشريك ولا الطبيب النفسي، وليست من وظائفه طمأنة المتلقّي بل تقديم الحقائق عارية بمُرّها وحلوها. لكن عندما تكتفي وسيلة إعلامية بوصف ذلك الضوء بـ"الغامض" دون تقديم تفسيره، المتاح منذ سنوات، يعدّ مساهمةً مباشرةً في زعزعة تلك الطمأنة لدى المتلقي، وفعل عكس ما تدّعي وقوفها لأجله. كذلك إلصاق وسم "متداول" بجانب المقطع لا يُعدّ إخلاء مسؤولية. أما ذكر وسيلة إعلامية كبرى أنه "لم يستطع أحد تفسير ظهور هذه الأضواء حتى الآن" يُدرج تحت خانة الكذب الصريح.
في الواقع، تعدّ هذه الظاهرة من أكثر الظواهر تفسيرًا من الناحية العلمية فيما يتعلق بالصلة بين باطن الأرض وغلافها الجوي في سياق الزلازل، بعيدًا عن هراء المدعو فرانك هوغربيتس. إذ تشير بعض النماذج إلى أن كسر روابط البيروكسي في بعض أنواع الصخور؛ مثل الدولوميت، الريوليت، إلخ.. الناتج عن الضغط العالي قبل وأثناء الزلزال يسبب تأيّن الأكسجين الذي ينتقل عبر الشقوق الموجودة في الصخور إلى الغلاف الجوي ليُأيّن جيوبًا من الهواء، وتتشكّل البلازما التي ينبعث منها الضوء.
بينما تتضمن إحدى التفسيرات الأخرى نشوء مجالات كهربائية مكثفة عن طريق الحركات التكتونية للصخور المحتوية على الكوارتز؛ مثل الجرانيت.
ويروح تفسيرٌ آخر إلى الاضطراب المحلي للمجال المغناطيسي للأرض و/أو الغلاف الأيوني في منطقة الضغط التكتوني، الذي يؤدي إلى تأثيرات التوهّج المرصودة إما من إعادة التركيب الإشعاعي الأيوني على ارتفاعات منخفضة وزيادة الضغط الجوي أو الشفق القطبي.
وخلال اجتماع الجمعية الفيزيائية الأمريكية في آذار/مارس 2014، تم تقديم بحثًا أعطى تفسيرًا آخر للظاهرة، وهو أنه عندما تحتك طبقتان من نفس المادة ببعضهما البعض، يتولد جهد كهربائي. يتفرّغ في الهواء مما يؤدي بعد ذلك إلى كهربته وتوليد ضوءًا كهربائيًا ساطعًا، ووفقًا لفريق الباحثين الذين حاكوا التجربة في مختبرات، ظهر الوميض في كل مرة مع كل مادة تم اختبارها.
في تقريرٍ صدر عن جامعة أوكسفورد البريطانية بالتعاون مع معهد رويترز للإعلام بعنوان "السرعة مقابل الدقة في أوقات الأزمات" تشير الباحثة ريكو سايشو إلى أنه من المهم لك كوسيلة إعلامية أن تبقى ذا صلة وتنشر القصص عندما يريدها الجمهور، لكن الاختبار الأكبر هو ما إذا كان الصحفيون قد بذلوا الجهود المناسبة واتخذوا خطوات معقولة للتحقق من المعلومات المتاحة في ذلك الوقت وتصنيفها.
عندما تكتفي وسيلة إعلامية بوصف ذلك الضوء بـ"الغامض" دون تقديم تفسيره، المتاح منذ سنوات، يعدّ مساهمةً مباشرةً في زعزعة تلك الطمأنة لدى المتلقي
وهنا تجدر الإشارة إلى أنني بالطبع لم أزر المراكز البحثية ومعاهد دراسة الجيولوجيا، ولم أقابل علماء الزلازل والفيزياء لجلب تفسيرات ظاهرة الوميض السابق للزلازل أعلاه، بل لم يتجاوز جهدي بضعة نقراتٍ وكلمات مفتاحية على محرك جوجل، وإلمامٍ بسيط بتمييز المصادر الرصينة أعتقد أنه من ألفباء العمل الصحفي، فلا أعدّ ما فعلته يرقى إلى وصفه تحديًا أو اختبارًا في المقام الأول.
كما تنوّه الباحثة إلى معرفة متى تكون اللحظة الحاسمة لبث المعلومات حتى لو كانت غير مؤكدة، ومتى يجب التراجع عنها. وهنا يكمن التمسك في القيم التي تمثلها الوسيلة الإعلامية، وللأسف، أيًا من ناشري الادعاءات لم يتراجع أو يحذف، ويمكن الوصول إلى المئات منها كل يوم وببضعة نقراتٍ كذلك.
في هذه الأوقات، نستحضر قصة صحيفة "إيشينوماكي هيبي شيمبون"، وهي صحيفة يابانية محلية في بلدة قريبة من مركز زلزال عام 2011. إذ فقدت الصحيفة كل شيء فعليًا في الزلزال، الكهرباء وأجهزة الكمبيوتر والطابعات، لكن فريقها استمر في اليوم التالي للكارثة بنشر جريدته باستخدام ما تبقى له؛ القلم والورق. ولمدة 6 أيام، كتب الصحفيون قصصهم على ورق بحجم الملصق وقاموا بتعليق الملصقات المكتوبة بخط اليد على مداخل مراكز الإغاثة في جميع أنحاء المدينة.
ينظر كويتشي أومي، رئيس تحرير الصحيفة، إلى الوراء ويقول: عندما يغرق مكتبك تحت الماء بعد أن فقدت كل شيء، وتوشك على عدم طباعة ورقتك لأول مرة خلال 99 عامًا من تاريخ الصحيفة.. فإنك تواجه أسئلة جوهرية: ما هي مهمتنا؟ وأي قضية نخدم؟
أعطتهم المشقّة الوضوح بدلًا من التراخي. وربّما تكون الطريقة الأفضل والوحيدة لتأسيس هذا المبدأ التوجيهي هي أن تسأل نفسك السؤال الأكثر جوهرية: ما الهدف من هذه الأخبار؟ وأن تتحلى بالشجاعة اللازمة لمتابعة قرارك بالإجابة.