الدقيقة السابعة والأربعين بعد الرابعة مساءً. أحدّق في شاشة حاسوبي بضجر. قضيت الكثير من الوقت وأنا جالسة اليوم. لا أستطيع التركيز، لكن لا يمكنني المغادرة بعد، إذ بقيت 13 دقيقة على انتهاء الدوام. تمتد يدي إلى هاتفي، أقلب قليلاً على أحد مواقع التواصل الاجتماعي، أعثر على "ميم" مضحكة وأرسلها إلى مجموعة محادثة غير رسمية لزملاء وزميلات العمل. خلال ثوانٍ أحصل على الكثير من ردود الأفعال والوجوه الصفراء الضاحكة، فالمعظم يفعل ما أفعله في هذا الوقت من اليوم. واضح أن إنتاجية غالبيتنا منخفضة مع نهاية الساعة الثامنة من يوم العمل. لكننا، مثل الملايين حول العالم، مقيّدون بالنموذج التقليدي للدوام الكامل المتمثل بـ 40 ساعة في الأسبوع وخمسة أيام عمل.
كان الناس (ولا يزال كثيرون حتى اليوم!) يعملون لمدد تتراوح بين 80 إلى 100 ساعة في الأسبوع خلال الثورة الصناعية، لكن في عام 1817 دعا نشطاء وجماعات نقابية لتحسين ظروف العمل، ورفعوا شعار "8 ساعات للعمل، و8 ساعات للراحة، و8 ساعات لما تريد". في عام 1926، روّج هنري فورد لأسبوع عمل من 40 ساعة، بعد أن وجد في أبحاثه أن العمل لساعات أطول صحيح أنه يؤدي إلى زيادة طفيفة في الإنتاجية لكنها لا تستمر لفترة طويلة. كما رأى أن وقت الفراغ ضروري للرأسمالية، إذ تحتاج الطبقة العاملة للوقت لشراء المنتجات الاستهلاكية واستخدامها. وبعد أن تقلص أسبوع العمل لـ 40 ساعة، توقع اقتصاديون، مثل جون ماينارد كينز، استمرار تناقص ساعات العمل تدريجيًا مع الزمن، فقد تنبّأ كينز أن التطور التكنولوجي سيمكننا من العمل 3 ساعات يوميًا بحلول عام 2030.
كان الناس يعملون لمدد تتراوح بين 80 إلى 100 ساعة في الأسبوع خلال الثورة الصناعية، لكن في عام 1817 دعا نشطاء وجماعات نقابية لتحسين ظروف العمل، ورفعوا شعار "8 ساعات للعمل، و8 ساعات للراحة، و8 ساعات لما تريد". وبعد أن تقلص أسبوع العمل لـ 40 ساعة، توقع اقتصاديون استمرار تناقص ساعات العمل تدريجيًا مع الزمن، فقد تنبّأ كينز أن التطور التكنولوجي سيمكننا من العمل 3 ساعات يوميًا بحلول عام 2030.
أنا على بُعد سبع سنوات من نبوءة كينز وما زلت محاصرة في نموذج فورد الصناعي لعام 1926، على الرغم من أنني أعمل في منظمة غير ربحية تستخدم أحدث الأجهزة والبرمجيات.
من المفارقة أنه خلال جائحة كورونا قبل بضعة سنوات فقط، شهد العالم إقبالًا كبيرًا على الانتقال للعمل عن بُعد. فقد كشفت لنا الجائحة أنه ليس علينا الذهاب إلى المكتب والجلوس لمدة ثماني ساعات يوميًا لنكون موظفين منتجين وننجز العمل المطلوب منا. لكن النقاشات والمفاوضات التي لحقت ذلك – على الأقل في مكان عملي – كانت متمحورة حول العمل من المنزل أو الحضور إلى المكتب. يوفر العمل في المكتب مساحة للتركيز وتبادل الخبرات والتفاعل المباشر مع الزملاء. كما يمكن أن يخلق شعورًا بالانتماء وينعش روح الفريق بين الموظفين، وهو أمر يصعب تحقيقه عند العمل عن بُعد. في المقابل، توفر الوظائف عن بُعد مرونة واستقلالية تتيح للأفراد العمل بأريحية من منازلهم وإدارة مسؤولياتهم الشخصية والمهنية بشكل أفضل. ومع ذلك، يجب ألا يقتصر الحديث عن مكان العمل، فلمَ لا ننظر بعدسة نقدية إلى أسبوع العمل القياسي المكون من خمسة أيام و40 ساعة؟
روبرت يوين هو الرئيس التنفيذي لشركة البرمجيات "مونوغراف" التي تبلغ قيمتها 29.3 مليون دولار . منذ تأسيس الشركة عام 2016، كان يوين من أنصار أسبوع العمل المكون من أربعة أيام ومن المروّجين لهذا النموذج لأسباب عديدة مثل الإنتاجية ورفاهية الموظفين. يقول يوين: "لا يتعلّق الأمر بالوقت، إنما بالمخرجات والتسليمات. فإذا استطاع الموظف التعامل بنجاح مع حجم العمل بكفاءة في أربعة أيام، وهو نفس حجم العمل الذي سبق وكان يسلّمه في الأيام الخمسة القياسية، فليس هنالك من حجة لإجبار الموظفين على العمل لثماني ساعات أخرى".
عالمياً، هناك تجارب مشابهة في عدة دول وشركات جربت أسبوع العمل المكون من أربعة أيام أو تقليل ساعات العمل، ففي عام 2018 في نيوزيلندا على سبيل المثال، سمحت شركة Perpetual Guardian لموظفيها بالعمل أربعة أيام في الأسبوع مقابل الحصول على راتب خمسة أيام. واعتبرت التجربة ناجحة، إذ عبر الموظفون عن زيادة الرضا الوظيفي لديهم وتمكنهم من تحقيق التوازن بين العمل والحياة الشخصية. وفي عام 2021، حظيت آيسلندا بتقديرات إيجابية بعد تجربة ناجحة لأسبوع العمل المكون من أربعة أيام، وقد شارك أكثر من 2500 عامل في مختلف الصناعات في التجربة التي استمرت لمدة أربع سنوات، وأسفرت التجربة عن تحسين التوازن بين العمل والحياة الشخصية، وتقليل الضغط النفسي، وزيادة الإنتاجية. كما أجرت شركة مايكروسوفت في اليابان عام 2019 تجربة سمّتها "تحدّي الصيف"، إذ عمل الموظفون أربعة أيام في الأسبوع واحتفظوا براتبهم كاملًا، وقد أسفرت التجربة عن زيادة الإنتاجية بنسبة 40٪، وتقليل تكاليف الكهرباء، وزيادة الرضا الوظيفي لدى الموظفين.
أما عربيًا، فهناك تجربة حديثة في إمارة الشارقة أظهرت نجاح نظام 4 أيام عمل و 3 أيام إجازة، الذي بدأ تطبيقه منذ كانون الثاني عام 2022.فقد كشفت دراسة قاست أثر النظام الأسبوعي الجديد بالشارقة عن زيادة كبيرة في إنتاجية الموظفين وصلت إلى نسبة 88% في جميع الجهات الحكومية بالإمارة. بالإضافة إلى الإنتاجية، كانت النتائج إيجابية بشكل لافت فيما يخص ارتفاع نسبة الالتزام بالحضور، وانخفاض معدل الإجازات المرضية، والشعور بالتوازن بين الحياة العملية والأسرية، وزيادة الاستمتاع بالعطلة الأسبوعية ونسبة المشاركة في المناسبات الاجتماعية، الأمر الذي انعكس على معدلات الرضا والصحة النفسية للموظفين وعائلاتهم.
العمل المرن (Flexitime) هو بديل آخر للدوام التقليدي الذي يمتد من التاسعة صباحًا حتى الخامسة مساءً. فترتيبات العمل المرنة تسمح للموظفين أن يعدوا جداولهم الزمنية استنادًا إلى احتياجات العمل مع مراعاة التفضيلات الشخصية وتحديد بداية يوم العمل ونهايته. فإذا كان الموظف شخصًا صباحياً، يمكنه استغلال فترة الفجر والضحى لإنجاز الأعمال ثم الانصراف للواجبات العائلية. أما إذا كان تركيزه أعلى في الليل، فيمكنه السهر واستغلال باقي يومه في أنشطة شخصية أخرى.
أظهرت دراسة عام 2017 أن الموظفين الذين يتمتعون بمستويات أعلى من الاستقلالية في العمل يشعرون بمزيد من الرفاهية والرضا الوظيفي. وقد علق الدكتور دانييل ويتلي من كلية إدارة الأعمال في برمنغهام، فقال إن "المرونة في وقت العمل ومكانه، وتحديدًا عند العمل من المنزل، لها فوائد للنساء اللاتي يتحملن مسؤوليات الرعاية، إذ تتيح لهن إدارة العمل المدفوع جنبًا إلى جنب مع الواجبات المنزلية".
لذلك عندما نتطرق في الحديث عن ترتيبات العمل ونطالب بالمزيد من المرونة والاستقلالية، فإن ذلك يعني إدماج فئات أكبر من المجتمع، وآثارًا إيجابية تتعدى الفرد وتصل إلى الأسرة والعائلة والأصدقاء.
لا داعي لأن يستنزف الموظفون والموظفات طوال الوقت في نهاية اليوم أو حتى في عطلة نهاية الأسبوع بعد أسبوع عمل طويل. المرونة في ترتيبات العمل ستكون مجدية للجميع على الصعيد النفسي والصحي والاجتماعي وحتى الاقتصادي.
أما أنا، فآمل في المستقبل القريب، عندما تكون الساعة 16:47ونعلم أننا لم نعد منتجين، أن نتمكن من حزم أغراضنا ومغادرة العمل لقضاء مشوار أو إنجاز مَهمة أو حتى لمجرد الذهاب والاسترخاء بدلاً من التظاهر بالعمل.