مقدمة
في الثامن من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، بعد مرور يوم واحد فقط على عملية "طوفان الأقصى" وبدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، فتح حزب الله جبهة عسكرية محدودة ضد إسرائيل، انطلاقًا من مزارع شبعا التي تحتلها إسرائيل.
ومنذ البداية، أوضح حزب الله أنه لا يسعى لمواجهة شاملة، بل أنه يهدف إلى حملة استنزاف محدودة لمساندة المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، وأكد أنه لن يوقف هذه الحملة إلا عندما تُوقف إسرائيل حربها العدوانية على القطاع.
وفي المقابل، كان واضحًا منذ البداية أن أولوية حكومة بنيامين نتنياهو الأولى، كما أعلنت عنها، هي القضاء على حركة المقاومة الإسلامية "حماس" وحكمها في القطاع، ومن ثم، لم ترغب في حرب شاملة مع حزب الله تشغلها عن تحقيق هذا الهدف، فضلًا عن أن الجيش الإسرائيلي لا يملك، رغم استدعائه قوات الاحتياط، سوى سبع فرق قتالية، زُجّ بخمسٍ منها في القطاع، ولم يتبقَّ لديه سوى فرقتين نشرهما على الحدود مع لبنان. بهذا، وكلٌ لأسبابه، حرص الطرفان، إسرائيل وحزب الله، خلال نحو تسعة أشهر من المواجهة بينهما على عدم الانجرار إلى حرب شاملة، رغم ارتفاع وتيرة المواجهات بينهما على عدة فترات.
ومنذ بداية المواجهة، أخلت إسرائيل المناطق الحدودية مع لبنان من السكان الذين يبلغ عددهم نحو 80 ألفًا، موزعين على 43 مستوطنة، وخلقت بذلك حزامًا أمنيًا داخل حدودها، وهذا الأمر لم يحدث من قبلُ بالنسبة إليها. وفي المقابل، أدى القصف الإسرائيلي لقرى الشريط الحدودي مع لبنان وبلداته إلى إلحاق دمار واسع بها وتهجير أكثر من 100 ألف من سكانها نحو مناطق أخرى في الداخل اللبناني.
أوضح حزب الله أنه لا يسعى لمواجهة شاملة، بل أنه يهدف إلى حملة استنزاف محدودة لمساندة المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، وأكد أنه لن يوقف هذه الحملة إلا عندما تُوقف إسرائيل حربها العدوانية على القطاع
وفي ضوء طول مدة الحرب، وتفاقم أزمة المهجّرين الإسرائيليين، وازدياد الضغط على القيادتين السياسية والعسكرية لإيجاد حل يمكّنهم من العودة إلى بيوتهم، واستمرار تصاعد الخسائر المادية والبشرية التي تتعرض لها إسرائيل من جراء هجمات حزب الله، ومع اقتراب انتهاء "المرحلة الثانية" من الحرب على قطاع غزة، والعمليات العسكرية المكثّفة فيه، ازدادت تهديدات إسرائيل بشنّ حرب شاملة على حزب الله إذا لم يُوقف هجماته ضدها.
وقد أعلن الجيش الإسرائيلي، في 18 حزيران/ يونيو 2024، أن قائد المنطقة الشمالية ورئيس شعبة العمليات صدّقَا على خطط عملياتية لهجومٍ على لبنان، وأنهما اتخذا القرارات بشأن تسريع جاهزية الجيش لتنفيذها. ولكن منذ ذلك الحين، حصل تراجع في التصعيد الكلامي والتهديد بالحرب.
العوامل التي تدفع إلى الحرب
ثمة عوامل تدفع إسرائيل إلى شنّ حرب محدودة أو شاملة ضد حزب الله، يأتي في مقدمها تزايد قوة حزب الله، كميًا ونوعيًا، مع مرور الوقت؛ أي إن الهدوء النسبي والوقت لم يكونا في صالح إسرائيل منذ عام 2006 على الجبهة اللبنانية، وصعوبة قبولها باستمرار الوضع الأمني في الشمال على حاله، وحاجتها إلى إبعاد قوات حزب الله عن المنطقة الحدودية مع لبنان، وإعادة المهجّرين الإسرائيليين إلى بيوتهم، واستعادة قوة الردع الإسرائيلي أمام خصومها وفي نظر المجتمع الإسرائيلي، وذلك من خلال توجيه ضربة إلى حزب الله تضمن إضعافه عسكريًا، وتمنع تكرار سيناريو عملية طوفان الأقصى من الحدود مع لبنان.
العوامل التي تدفع إلى التوصل إلى حل سياسي
ثمة عوامل أخرى تدفع إسرائيل إلى التردد بشأن الدخول في مواجهة عسكرية شاملة مع حزب الله، ومحاولة استنفاد فرص التوصل إلى حل سياسي، وأهمها ما يلي:
أولًا: نشوء حالة من الردع المتبادل بين حزب الله وإسرائيل، ناجمة عن نجاح حزب الله في مراكمة ترسانة من الأسلحة الحديثة التي تعدّها إسرائيل "كاسرة للتوازن"، ما يجعلها تتحسب لاحتمال تكبّد خسائر فادحة في الأرواح والبنى التحتية في حال اندلاع حرب شاملة. ومن المتوقع أن تعمد إيران إلى توفير مختلف أشكال الدعم كي تمكّن حزب الله من الصمود، في حال اندلاع مواجهة، بما في ذلك تشجيع الميليشيات الموالية لها في المنطقة على تقديم الدعم والمشاركة في الحرب. وفي ضوء الصمود الذي أبدته فصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، يشكك بعض المحللين الإسرائيليين في قدرة إسرائيل على إنهاء الحرب ضد حزب الله بالطريقة التي تبتغيها. لذلك، طرح العديد منهم فكرة القيام بشنّ حرب محدودة ضد حزب الله بدلًا من التورط في حرب شاملة، تهدف إلى إبعاد قواته عن الحدود، وإنشاء حزام أمني في جنوب لبنان، يمكّن المهجّرين الإسرائيليين من العودة إلى مستوطناتهم. وقد حذّر تقدير موقف صادر عن معهد دراسات الأمن القومي في جامعة تل أبيب من أن حزب الله يمتلك ترسانة كبيرة من الأسلحة الحديثة يمكنها إلحاق أضرار جسيمة بالعمق الإسرائيلي، تشمل 150 ألف صاروخ على الأقل، من ضمنها صواريخ أرض - أرض متوسطة وبعيدة المدى، وصواريخ مضادة للدروع، وصواريخ أرض – بحر. وأشار تقدير الموقف إلى أن ترسانة الحزب من الصواريخ تستهدف شمال إسرائيل ومناطق حيفا والخضيرة وتل أبيب وجنوب إسرائيل، إلى جانب آلاف المسيّرات من أنواع مختلفة تشمل مسيّرات للتجسس، ومسيّرات انتحارية، ومسيّرات هجومية مسلحة بصواريخ، يمكنها الوصول إلى أماكن مختلفة في إسرائيل.
وفي حال حدوث حرب شاملة، يمكن أن تتعرض بنى تحتية وأهداف استراتيجية إسرائيلية مختلفة لهجمات مكثّفة من حزب الله قد تشلّها جزئيًا أو كليًا. ولن تتمكن مختلف الدفاعات الجوية الإسرائيلية، بما في ذلك سلاح الجو، من منع عدد كبير من الصواريخ من بلوغ أهدافها، خاصة أن حزب الله في إمكانه إطلاق أكثر من 5000 صاروخ من أنواع مختلفة في اليوم الواحد. وتأتي في مقدمة البنى التحتية التي يتوقع الإسرائيليون استهدافها شبكة الكهرباء، ومنظومة الاتصالات، وطرق المواصلات البرية والبحرية والجوية، بما في ذلك المطارات والموانئ ومحطات السكك الحديدية. ويُعدّ استهداف البنى التحتية لشبكة الكهرباء أحد أهم الأخطار التي تواجهها إسرائيل، ويشمل ذلك منشآت توليد الكهرباء ومصادره، بما فيها منشآت الغاز الإسرائيلية في البحر الأبيض المتوسط. وقد صرّح المدير العام للشركة الحكومية التي تدير منظومة الكهرباء في إسرائيل بأن في استطاعة حزب الله توجيه ضربات إلى المواقع الحيوية في إنتاج الكهرباء في إسرائيل، وهو الأمر الذي قد يؤدي إلى تعطيلها أيامًا طويلة.
ثانيًا، يعاني الجيش الإسرائيلي الإنهاك والتعب، وتآكل معنوياته وضعف جاهزيته للقتال، من جرّاء حربه الطويلة في قطاع غزة. ويتطلب شنّ حرب برية ضد حزب الله، فضلًا عن ذلك، استدعاء قوات الاحتياط المستنزفة وتعريض الاقتصاد الإسرائيلي لمزيد من الخسائر إضافةً إلى تلك التي لحقت به خلال الأشهر التسعة الماضية. ويفضّل الجيش الإسرائيلي عدم التورط في حرب شاملة مع حزب الله ما دامت الحرب على قطاع غزة مستمرة. ورغم مرور نحو تسعة أشهر على حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على سكان القطاع الذي دمرته وجعلته غير صالح للحياة البشرية تقريبًا، فإن إسرائيل لم تستطع حتى الآن تحقيق أهداف الحرب المعلنة، خاصة منها القضاء على المقاومة الفعالة لحركة حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية الأخرى. وحتى بعد أن يُنهي الجيش الإسرائيلي عمليته العسكرية في رفح، وينتقل إلى ما يطلق عليه بـ "المرحلة الثالثة" من الحرب، التي تتطلب نشاطًا عسكريًا مستمرًا في مختلف أنحاء القطاع أشهرًا عديدة قادمة، بحسب التقديرات الإسرائيلية، فإن ذلك يستدعي بقاء قوات كبيرة في غلافه، وفي عدة محاور داخله. ويفضّل قادة المؤسسة العسكرية، بوضوح، الحصول على تهدئة تستمر عامين، على الأقل، حتى يتمكن الجيش من استعادة قدراته واستعداداته لشنّ حرب كبيرة ضد حزب الله، قد تتطور إلى حرب إقليمية.
ثالثًا، ما زال المجتمع الإسرائيلي يعاني صدوعًا عميقة بفعل محاولة الانقلاب القضائي التي لم تكتمل بقيادة نتنياهو، وفي الوقت نفسه لم يخرج من صدمة عملية طوفان الأقصى التي أفقدته ثقته بمؤسسات الدولة كلّها، وبالقيادتين السياسية والعسكرية، نتيجة الفشل في منع العملية والإخفاق في تحقيق أهداف الحرب على قطاع غزة، لا سيما استعادة المحتجزين الإسرائيليين. وإضافةً إلى ذلك، لا تفتأ حدة الخلاف تتعاظم بين حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة الفاشية من ناحية، والمؤسسة العسكرية والأمنية من ناحية أخرى، حول جملة من السياسات المتصلة بإدارة الحرب وأهدافها، في حين تتراجع شرعية الائتلاف اليميني المتطرف الفاشي، رغم استمرار تمتّعه بأغلبية في الكنيست.
رابعًا، تُعارض الإدارة الأميركية شنّ إسرائيل حربًا شاملة ضد حزب الله، وتشجّع الطرفين على عدم توسيع المواجهة بينهما، وتعمل على التوصل إلى اتفاق حدودي بين إسرائيل ولبنان بشأن الأراضي اللبنانية التي تحتلها إسرائيل، شبيه باتفاق ترسيم الحدود البحرية الذي تم التوصل إليه بين الطرفين في عام 2022، على نحو يضمن تطبيق قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 1701 وهدنة دائمة، وربما إعادة مزارع شبعا إلى لبنان. وتدّعي أوساط مطّلعة على مجريات الوساطة الأميركية أن الاتفاق شبه جاهز ومقبول من "الأطراف". والجدير بالذكر هنا أن موقف الإدارة الأميركية يُعدّ ذا أهمية بالغة في أيّ قرار تتخذه إسرائيل فيما يتعلق بشنّ حرب على لبنان لأسباب كثيرة؛ أبرزها اعتماد الجيش الإسرائيلي على الأسلحة والذخائر الأميركية، فضلًا عن حاجة إسرائيل إلى دعم أميركي مباشر في حال اتساع نطاق المواجهة ليشمل سائر حلفاء إيران في المنطقة.
خاتمة
يواجه نتنياهو وقادة المؤسسة العسكرية والأمنية الإسرائيلية في إسرائيل خيارات صعبة بشأن الوضع على الحدود مع لبنان. فمن ناحية، يصعب عليهم التعايش مع التهديد الذي يمثّله حزب الله لشمال إسرائيل. ومن ناحية أخرى، يدركون حجم الخسائر الجسيمة التي قد تلحق بالعمق الإسرائيلي وبنيته التحتية، إلى جانب الخسائر البشرية في صفوف الجيش والمدنيين، في حال شنّ الجيش هجومًا بريًا على لبنان. ويدركون كذلك أن الجيش غير مستعد حاليًا لشن حرب شاملة قد تستمر أشهرًا طويلة ضد حزب الله، في حين أنه مستمر في عملياته العسكرية في قطاع غزة، وفي ظل معارضة أميركية ووضع داخلي إسرائيلي منقسم. لذلك، يرجّح أن تحاول إسرائيل استنفاد محاولات إيجاد حل سياسي لإبعاد حزب الله عن الحدود قبل اللجوء إلى الخيار العسكري المتمثل في الحرب الشاملة. وثمة اعتقاد لدى قيادة المؤسسة العسكرية والأمنية الإسرائيلية أنه إذا جرى التوصل إلى عقد صفقة لتبادل الأسرى تشمل وقفًا مستدامًا لإطلاق النار، فإن إطلاق النار سيتوقف تلقائيًا في الشمال، وقد تنشأ فرصة لتخيير حزب الله بين الحرب والهدنة المستدامة بناءً على قرار مجلس الأمن رقم 1701، وربما يتطلب الأمر بعض التنازلات الإسرائيلية بخصوص مزارع شبعا بعد أن أصبح من الممكن تجاهل سورية الدولة.