الممثل جاكي شان يصور بعض مشاهد فيلمه الجديد "Home Operation" في حي الحجر الأسود قرب دمشق. هذا الحي ميت منذ 2018. لكن الممثلين وفريق التصوير والسفراء أيضًا، يمثلون فيه ما يدعى عملية إنقاذ لبضع مئات من الأجانب من دولة شرق أوسطية يسميها السيناريو "بومان" وتسميها الوقائع اليمن. عملية الإنقاذ هذه هي أيضًا إعادة تمويت أخرى للحي نفسه. بعد انتهائها سيموت الحي مرة أخرى ويطوى في النسيان.
يلام جاكي شان في عالم الفن السابع على هذا الرقص فوق ركام البيوت والناس وذكرياتهم وحيواتهم، وتلام الصين أيضًا في عالم السياسة على هذا التشفي بالضحايا والاستثمار في فجائعهم
يلام جاكي شان في عالم الفن السابع على هذا الرقص فوق ركام البيوت والناس وذكرياتهم وحيواتهم، وتلام الصين أيضًا في عالم السياسة على هذا التشفي بالضحايا والاستثمار في فجائعهم، ويلام نظام بشار الأسد أيضًا على التنكر لما جنته طائراته ودباباته ومدافعه على هذا الحي أبنية وأهلًا، وتنسيبها في لحظة نشوة سينمائية إلى أعمال متحاربين بعيدين. تمامًا كالعبارة التي يرددها اللبنانيون منذ أدمنوا التعايش مع حروبهم الأهلية بدعوتها "حروب الآخرين على أرضنا". هذه المرة يقول لنا النظام السوري إنها حرب آخرين أيضًا يتم تمثيلها على أرضنا. لكن هذه الأرض، بحسب المخرج السوري المشارك في الفيلم رواد شاهين، تناسب أيما مناسبة الفن السينمائي. فهي عبارة عن أستوديوهات بنتها أدوات التهديم الحربية: الدبابات والطائرات والمدافع اشتغلت بحنكة وذكاء لتحول حي الحجر الأسود، ومدنًا وأحياء كثيرة في سوريا، إلى أستوديوهات سينمائية. وحيث إن كلفة تحقيق هذا الإنجاز كانت عالية، فلا بأس من تأجير الحي وبقايا أهله لشركة إنتاج سينمائي.
الاعتراضات على هذه الكلبية في التعامل مع محنة شعب كامل، ما زال أكثر من ربعه مهجرًا في المنافي، محقة طبعًا. والإدانة الأخلاقية أكثر من مناسبة في هذا المقام. إنما مع ذلك، يجدر بي أن أسأل سؤالًا يحيرني: ماذا بعد هذه الإدانات؟
بالطبع لن نستطيع أن نفعل شيئًا أكثر من الإدانة. وهذا أمر يكاد يضع النصل على أعناقنا جميعًا، سوريين وغير سوريين. إذ كيف نستطيع أن نتخيل أن مدنا كاملة تستخدم مسرحا للمجازر والقتل من غير رحمة، ثم يعاد استخدامها كتمثيل لمجازر أخرى حدثت في أمكنة بعيدة؟ كيف يمكن لليمني المعترض على حربه الأهلية، أن يتقبل تصوير معاناة يمنيين وأجانب في بلده على أنقاض بيوت سوريين وأرواحهم؟ كيف يمكن لمشاهد عابر أن يذرف دمعة على صيني أو باكستاني عانى كثيرًا قبل أن ينقذه البطل جاكي شان، وهو يعرف أن الحي الذي يتم التصوير فيه ليس مصنوعًا من ورق مقوى وكرتون، وأنه كان حتى الأمس القريب حيًا ونابضًا؟
ولنفترض جدلًا أن كل سكان هذا الحي كانوا إرهابيين، بأطفالهم وشيوخهم، كيف يمكننا أن نتقبل مقتلهم جماعة ومحو أثرهم من الوجود كما لو أنهم لم يكونوا حقاً؟ ثم، نستكمل حياتنا على النحو الذي يجعلنا نقضي وقتًا مسليًا ونحن نشاهد رقص جاكي شان على رفات الحي وأهله؟
هذا في الأعم والأغلب. أما حين تغلبنا المأساة السورية وتدفعنا إلى التخصيص، فلا بد من استحضار الأسئلة الأكثر مضاضة: إلى متى يُفرض على السوري، لاجئًا ومقيمًا، ميتًا وحيًا، أن يكون ممنوعًا من التضامن مع ضحايا آخرين؟ إلى متى نستطيع حشره في زاوية من لا يحق له الشكوى والبكاء؟ إلى متى نستطيع أن نبقيه ميتًا على النحو الذي يبدو عليه في الأفلام والروايات والمفاوضات السياسية؟ إلى متى نستطيع أن نحافظ على توازننا كبشر، ونحن نبكي الضحية اللبنانية أو اليمنية أو الصينية، فوق رأس الميت السوري؟
السوريون هم الموتى الغائبون في هذه المعادلة. السوريون، هم الذين يموتون ليتسنى لنا أن نعاين مصائر موتانا. لقد أصبحوا مجرد مجالدين وتقتصر مهمتهم في هذه الدنيا على الموت عيانًا ليتسنى لنا أن نبكي على موتانا فقط.
