في الأمسية الأخيرة قبل البدء بمراسم دفن الملكة إليزابيث، وعلى الضفة الجنونية لنهر التايمز، امتد طابور طويل من المعزين، في انتظار إلقاء النظرة الأخيرة على جسد الملكة المسجى في ويستمنستر. من اليوم الأول كانت التنويهات الرسمية تحذر من أن مدة الانتظار قد تطول إلى أكثر من ثلاثين ساعة، ولم يمنع هذا ألوف المواطنين من التقاطر يومًا بعد آخر، بعزيمة وحماس شبه ديني، وفي انتظار طال من الصباح الباكر إلى ما بعد منتصف الليل. كانت الوجوه تشي بقدر من المهابة، وكأن الواقفين على وشك الدخول في خضم طقس مقدس، يذوب فيه المرء في وسط كل هذه الحشود الهائلة، وفوران مشاعرها. نقلت شاشات التلفزيون على مدار الساعة، مشاهد المواطنين وهم يدخلون إلي القاعة حيث ينتصب كفن الملكة، لينالوا لحظة واحدة وأخيرة في مواجهته، وهناك كانت انحناءات الرؤوس والتمتمة صلوات حقيقة، لا مجازًا.
على ضفة النهر المزدحمة، وعلى مسافات متساوية انتصبت لافتات كبيرة تحمل اسم الملكة، وأسفلها واحد من ألقابها الرسمية الكثيرة؛ "المدافعة عن العقيدة"
على ضفة النهر المزدحمة، وعلى مسافات متساوية انتصبت لافتات كبيرة تحمل اسم الملكة، وأسفلها واحد من ألقابها الرسمية الكثيرة؛ "المدافعة عن العقيدة". يحمل العاهل البريطاني ذلك اللقب الروحي منذ تأسيس الملك هنري الثامن للكنيسة الإنجليكانية، وانفصالها عن سلطة البابوية في روما. لم تكن البذار الأولى للعلمانية البريطانية، إن صح عليها هذه التسمية، وليدة فصل الدولة عن الدين، فذلك ما كان متحققًا بشكل ما شديد التعقيد في كاثوليكية الممالك الأوروبية، حيث انقسمت السلطة بين سلطة أرضية يملكها العاهل وسلطة روحية تملكها الكنيسة، على الأقل نظريًا، في نوع من فصل السلطات كان سببًا في توتر سياسي دائم إن لم يكن في صراعات دموية طويلة. على العكس، ما أسسه هنري كان فرض هيمنة السلطة الأرضية على الروحي، أي دمج للإثنين، ليوحد الملك في نفسه كلتا السلطتين، كرأس للدولة ورأس للكنيسة معًا. كانت الملكة إليزابيث رأس كنيسة إنكلترا، على نفس المنوال.
لم يكن للافتات "المدافعة عن العقيدة" علاقة بكل هذا. فبالقرب من كل لافتة كان يقف عدد من الأشخاص يوزعون عددًا من الكتيبات الورقية بحجم كف اليد، وعلى الغلاف صورة للملكة، وفي الصفحات الأولى نبذة شديدة الإيجاز عن حياتها، تتبعها رسالة تبشيرية، تدعو القارئ لقبول المسيح كـ"ملك" في حياته. كان الأمر انتهازًا لفرصة المناسبة المزدحمة لتوزيع الرسالة الروحية. لكن ما لا يمكن إغفاله في تلك الحيلة الدعائية، هو هذا التداخل ما بين الإلهي والملكي، أو كيف يقود أحدهما إلى الآخر، من الملكة الأرضية إلى الملك السماوي.
قبلها ببضعة أيام، نقلت جريدة "الديلي ميل"، في نسختيها البريطانية والأسترالية، صور لظهورات للملكة بعد وفاتها، سحابة ضخمة تم مقارنتها بصورة لرأس الملكة مع القبعة، وأخرى لصورة لها على صهوة جوادها، وفي خبر آخر عمود من النور يخترق السحب هابطًا بالقرب من موكب جثمان الملكة مع تعليق "السماوات تنفتح لأجل جلالتها". لا يمكن التعامل مع تلك الأخبار سوى باعتبارها طرائف شعبية رخيصة، لجريدة التابلويد الأشهر في بريطانيا. لكن كيف قفز هذا الخيال القروسطي فجأة إلى صفحات الجرائد؟
في الأيام الأولى الثلاثة بعد الوفاة، اشتركت جريدة "الغارديان" مع غيرها من وسائل الإعلام في تأبين الملكة، دون أي إشارات نقدية، والتصريحات الرسمية لحزب العمال تدعو لاحترام الحزن، وعدم توجيه النقد مخافة رد فعل جماهيرية غاضبة وسط موجة الحداد الوطني الجارفة. أخبار القبض على متظاهرين لرفعهم لافتات معارضة للنظام الملكي، دفعت الجريدة مع غيرها لانتقاد ممارسات الشرطة التي وصفت بتهديد لحرية التعبير. وفي اليوم التالي كان العنف الذي مارسه بعض الجمهور ضد أحد المتظاهرين سببًا إضافيًا للتعبير عن الخوف من صعود عنف اليمين المتطرف. ومن ثم نشرت الغارديان مقالًا افتتاحيًا يدعو ببساطة للإقرار بأن النظام الملكي البريطاني أصبح دينًا، "دينًا علمانيًا".
كان مفترضًا بالحداثة، وبالأخص في شقها العلماني، أنها قد نزعت السحر عن العالم، حسب الوصف الشهير لعالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر. لكن ذلك الاختزال حسن النية، يتجاهل أن ذلك السحر لم يتلاش في ظل الدولة الحديثة، ولا حتى في أعرق الديمقراطيات الغربية وأرسخها. كل ما حدث أنه يتوارى قليلًا، ويأخذ أشكالًا أخرى. ورثت العلمانية سحر الماضي وطقوسه، ولم تتخل الحداثة عن الديني أو الروحي بل أخضعته للأرضي، بالأحرى رفعت الأرضي لمصاف السماوي.
كان مفترضًا بالحداثة أنها قد نزعت السحر عن العالم، حسب الوصف الشهير لعالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر. لكن ذلك الاختزال حسن النية، يتجاهل أن ذلك السحر لم يتلاش
سلطة العاهل البريطاني كرأس الدولة، وعلى الرغم من سلطاته الدستورية الواسعة، تظل رمزية، مثل سلطته الروحية كرأس للكنيسة. لكن ألا يتعلق السحر كما السياسة بالرمزي؟