في كثير من الأحيان، يكون قرار ترك العمل لدى شركة كبرى، مثل جوجل أو تويتر أو فيسبوك، خبرًا بذاته. فالمزايا التي يتمتع بها الموظف في مثل هذه الشركات، والمكسب المعنويّ المعتبر بفضل العمل معها وارتباط الاسم مهنيًا بها، يجعل قرار الاستقالة حدثًا مستهجنًا يستدعي تفسيرًا، ولاسيما حين تأتي فجأة، وبشكل يوحي بأن ثمة فضيحة أو خطبًا ما من ورائها.
تعرضت آرييل كورين إلى حملة شعواء داخل شركة جوجل لتأديبها على موقفها المناهض للتعاون مع دولة الاحتلال
في الأسطر التالية، نستعرض في موقع التراصوت، نقلًا بشكل أساسي عن نيويورك تايمز، قصّة آرييل كورين، الموظفة السابقة في جوجل، والتي تصدّت يومًا ما لإدارة الشركة وأعربت عن معارضتها لاتفاقيات ضخمة عقدتها مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، لتطوير أنظمة ذكاء اصطناعي وتعقب تقني، وكان جزاؤها وآخرين معها التضييق وخفض المكافآت والتهميش، وهو ما دفعها في نهاية المطاف إلى الاستقالة.
آرييل كورين ضد جوجل
استقالت آرييل كورين من منصبها، بعد مسيرة امتدّت سبع سنوات أمضتها مديرة للتسويق في قسم للمنتجات التعليمية في جوجل، وأعلنت عن ذلك في تدوينة كتبتها إلى زملائها، توضح فيها سبب القرار، وتؤكّد على عدم تراجعها عن مواقفها المناهضة للتعاون مع مشاريع تخدم الاستيطان وتستهدف المدنيين الفلسطينيين.
كورين، وهي أمريكية يهودية، أخذت على عاتقها مهمّة مبدئية بالغة الحساسية، حين تصدّت بكل حماسة لمشروع "نيمبوس" (كلمة لاتينية تعني "هالة النور!")، وهو مشروع بقيمة 1.2 مليار دولار تشارك فيه جوجل وأمازون مع جيش الاحتلال الإسرائيلي، لتطوير أدوات ذكاء اصطناعي وخدمات حوسبة سحابية فائقة. وانطلاقًا من نشاطها الحقوقي في مناهضة أنشطة الاحتلال، وجدت كورين، أن عليها التحرّك بطريقة ما، لتسجيل موقف معارض لهذا المشروع ومحاولة إقناع الشركة بالعدول عنه.
فقد عمدت آرييل كورين (28 عامًا)، إلى إطلاق عريضة التماس، تطالب فيها الشركة بإعادة النظر في الصفقة، ودعت موظفي الشركة والعامة والمنظمات الحقوقية وجماعات الضغط داخل أمريكا وخارجها، للتوقيع عليها والوقوف عقبة أمام إتمام الصفقة.
لكن هذا التحرّك المدنيّ السلمي أثار حفيظة الشركة وإدارتها العليا، وكانت نتيجته أن تلقت كورين إخطارًا من إدارة شؤون الموظفين في جوجل، يطلب منها الانتقال للعمل في مكاتبها في البرازيل خلال 17 يوم عمل. الإخطار تضمّن تحذيرًا صادمًا: عدم الانتقال خلال هذه الفترة سيتسبب في فصلك!
بالنسبة إلى كورين، التي عملت سابقًا في أمريكا اللاتينية، لم يكن ثمة أي مسوّغ عمليّاتي لتلك النقلة المباغتة وعلى ذلك الوجه من الاستعجال، ولاسيما وأن موظفي مكتب الشركة في ساو باولو يعملون عن بعد حاليًا، بسبب ظروف جائحة كوفيد-19.
هذا التحرّك المفاجئ وما سبقه من تحريش عليها وتضييق من قبل الشركة اضطر آرييل كورين في نهاية المطاف إلى إعلانها ترك منصبها في الشركة في غضون أسبوع، وعزت ذلك إلى ما شعرت به من تفاقم العداء تجاهها في مكان العمل، والتصرفات غير القانونية من قبل إدارة الشركة، وهو ما حال، بحسب تدوينتها، دون ممارستها لعملها على النحو اللائق، كما أنه قد عرّض بسلامتها المعنوية والنفسية.
شنّت كورين هجومًا لاذعًا في التدوينة على شركة جوجل، إذ انتقدت ما وصفته السعي المنهجي لاستهداف الموظفين الذين لم يكن ذنبهم سوى مطالبة شركتهم بالالتزام بمعاييرها الأخلاقية، وعدم الانخراط في عقود ذات تطبيقات عسكرياتية. كما أوضحت كورين بأن جوجل قد حرمت الموظفين من حقهم في التعبير، عبر سلوك إداري تعسفي يسعى إلى القمع والانتقام من كلّ من اتخذ موقفًا مناهضًا للاتفاق مع إسرائيل.
يذكر أن خمسة عشر موظفًا آخرين في جوجل قد أدلوا بشهادات صوتية يوم أمس الثلاثاء، 30 آب/أغسطس، يطالبون فيها الشركة بعدم التعامل مع إسرائيل، وينتقدون موقفها إزاء فلسطين والاحتلال الإسرائيلي، ومحاولات قمع أصوات الموظفين الداعمين لحقوق الفلسطينيين. جميع هذه الشهادات نشرت بأسماء مستعارة، ما خلا شهادتين فقط تجرأ صاحباها على الحديث باسمهما المعروف للشركة.
تلك الشهادات التي نشرت على منصّة يوتيوب، تتسق في مجملها مع الانتقادات التي وجهتها كورين لجوجل في تدوينتها، والتي قالت إنها "تعمل بشكل منهجي على قمع أصوات الفلسطينيين واليهود والعرب والمسلمين المهتمين بفضح تواطؤ جوجل مع إسرائيل على حساب حقوق الفلسطينيين، إلى درجة أنها مستعدة للانتقام من موظفيها، وبث جوّ من الرعب دون ذلك". وتضيف كورين: "بالبناء على التجربة التي مررت بها، فإن قمع الجدل والمعارضة على ذلك النحو، قد ساعد جوجل على حماية مصالحها مع إسرائيل، جيشًا وحكومة، وأنا أدعو كافة الموظفين إلى الاطلاع على تفاصيل مشروع "نيمبوس" والتحرّك ضدّه".
سياسات القمع الداخلية في جوجل
سياسة الانتقام هذه ليست غريبة على جوجل، بحسب نيويورك تايمز، فقد استقال في العام 2019 كلٌّ من كلير ستابلتون وميريديث ويتاكر، بعد عدة إجراءات بدت انتقامية من قبل الشركة على خلفية مشاركة الموظفتين في مسيرة تنتقد سياسات مناهضة التحرش الجنسي في جوجل. وفي العام ذاته فصلت جوجل أربعة من موظفيها بسبب أنشطتهم الحقوقية في الشركة، وتبع ذلك فصل موظف آخر بعد أن حاول تنبيه موظفي الشركة إلى حقهم في التظاهر والتنظيم. هذه الحالات الخمسة خضعت لمراجعة من قبل المجلس الوطني الأمريكي لعلاقات العمل (NLRB)، والذي وجد أن جوجل قد فصلت اثنين منهما بدون وجه حق، في حين تصرفت على نحو انتقامي من الآخرين.
كما فصلت الشركة مؤخرًا باحثين لديها في مجال الذكاء الاصطناعي، هما تيميث غيبرو (Timnit Gebru)، ومارغريت ميتشيل (Margaret Mitchell)، عملا في فريق "الذكاء الاصطناعي الأخلاقي"، واتخذا موقفًا ناقدًا لتقنية جوجل وتطبيقاتها. وهو تصرف تكرر مجددًا في تموز/يوليو الماضي، حين طردت جوجل المهندس بليك ليمون (Blake Lemoine)، بعد أن ادّعى أن نظام الذكاء الاصطناعي في الشركة يمتلك "وعيًا"، وسرّب بعض الوثائق لوسائل الإعلام.
قصّة مشروع نيمبوس
أما نيمبوس، فهو مشروع أعلن عنه في نيسان/أبريل 2021، وقد صدّرت كورين نفسها مبكرًا لمعارضته وبيان ما ينطوي عليه من انتهاكات حقوقية وتواطؤ مع الاحتلال، باعتبار أنه يساعد الجيش الإسرائيلي في تنفيذ عمليات استطلاع ومراقبة تلحق الأذى بالمدنيين الفلسطينيين. ورغم معارضة واسعة داخل الولايات المتحدة وخارجها للمشروع، إلا أنه دخل حيز التنفيذ اعتبارًا من تموز/يوليو 2021.
تحيط جوجل وإسرائيل هذا المشروع بالكثير من السريّة، ولا تتوفر أي معلومات رسمية واضحة حول الإمكانات التي سيوفرها المشروع للجيش الإسرائيلي، إلا أن معلومات سربها موقع "ذا إنترسبت" تشير إلى أن المشروع يتضمن تطوير برمجيات للتعرف على هويات الأشخاص، وقياس حالتهم الشعورية بالاعتماد على تعابير الوجه وتعقب الحركات. لكن الشركة نفت في وقت لاحق بيعها أي تقنيات "عامة" للتعرف على الوجوه لأغراض الرقابة وتعقب الأفراد.
تزايد الزخم حول حملة كورين لمناهضة المشروع، وانضم موظف آخر، يهوديّ أيضًا، إليها، ونشط في معارضة مشروع "نيمبوس" بشكل علني، وشارك معلومات عن المشروع والتهديد الذي يمثله مع 3،000 موظف على الأقل في قائمة بريدية للموظفين اليهود في الشركة. كما تعاون مع مجموعة "يهود الشتات في عالم التقنية" (Jewish Diaspora in Tech)، وهي مجموعة أدت دورًا بالغ الأهمية في تنظيم الأنشطة المناهضة للمشروع.
في تموز/يوليو 2021، حصلت كورين على إجازة مرضية بعد معاناة من الاكتئاب والقلق والإرهاق الوظيفي، وهي فترة تكثفت خلالها الحملة ضد مشروع "نيمبوس"، ولاسيما بعد عريضة عامة تطالب بإلغائه، ومشاركة عدة منظمات حقوقية في التنشيط ضدّه.
خلال تلك الإجازة، شاركت كورين في مقابلة متلفزة مع شبكة "MSNBC" للحديث عن مشروع نيمبوس والاحتجاجات داخل جوجل ضدّه، وكانت تلك الخطوة على ما يبدو هي القاصمة، إذ كثفت جوجل بعدها من محاولاتها لاستهداف كورين والتخلص منها.
في تشرين الثاني/نوفمبر 2021، عادت كورين إلى العمل، لتجد رسالة من إدارة الموارد البشرية تخطرها بقرار نقلها للعمل من البرازيل، وأن أمامها ثلاثة أسابيع فقط لترتيب ذلك وإلا سيتم الاستغناء عن خدماتها. استعانت كورين بمحام، فتقدمت بشكوى لدى قسم الموارد البشرية في الشركة بدعوى النقل الانتقامي، فقررت الشركة التحقيق في الأمر، وهو ما علّق تنفيذ قرار النقل. ثم تقدمت بشكوى ثانية إلى المجلس الوطني لعلاقات العمل، والذي ردّ الشكوى لعدم كفاية الأدلة. أوضحت كورين أن جوجل قد منعت المجلس من الحديث مع مديرها المباشر، وأصرّت على الادعاء بأن نقلها إلى البرازيل متعلق بمصلحة القسم الذي تعمل به، نافية أن يكون ذلك بداعي الانتقام منها.
تابعت كورين عملها، بانتظار نتائج التحقيق من قسم الموارد البشرية في الشركة، لكنّها حصلت على إجازة مرضية طويلة أخرى في شباط/فبراير الماضي، وفي ذلك الشهر وقع 700 موظف على عريضة تدعي أن جوجل أساءت لزميلتهم، وتصرفت معها على نحو غير منصف ينمّ عن رغبة بالانتقام منها بسبب نشاطها المناهض لمشروع "نيمبوس". وقد وقع على نسخة عامّة من تلك العريضة 25،000 شخص خارج الشركة.
ثم وفي آذار/مارس الماضي، وتحديدًا في اليوم الذي سبق ظهور مقال في صحيفة لوس أنجلوس تايمز حول ادعاءات كورين ومعاناتها من إجراءات انتقامية داخل الشركة، تلقّت كورين رسالة من قسم الموارد البشرية في جوجل جاء فيه أن الشركة على علم بتواصلها مع وسائل إعلام للحديث عن الموضوع، وتنبهها إلى أنه كان يجدر بها نقل تخوفاتها إلى القسم مباشرة. كما تواصلت جوجل مع الصحيفة، وأبلغتها بأنها لم تجد أي دليل على وجود سلوك انتقامي في تعاملاتها مع السيدة كورين، وهو ما ولّد قناعة لديها بأنه لم يعد أمامها سوى خيار الاستقالة، ومواجهة الشركة في حملة على وسائل التواصل الاجتماعي والضغط عليها عبر الدعم القانوني المختص الذي يمكن أن تحصل عليه.
من جهة أخرى، نقلت نيويورك تايمز عن ستة موظفين فلسطينيين في جوجل، لم يكشفوا عن أسمائهم، قولهم أنهم لا يشعرون بالأمان عند التعبير عن آرائهم داخل الشركة، خاصة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، رغم أن أحدهم قال، بحسب نيويورك تايمز، إن مشروع "نيمبوس" يثير لديه شعورًا بأنه "يعتاش على مأساة أهله".
وذكر بعض الموظفين الآخرين أنهم تعرضوا للتأنيب أو التنبيه لمجرد تصوّر أنهم يمتلكون آراء معادية للسامية، بسبب إعلان دعمهم لفلسطين، ولو بشعارات على حساباتهم على وسائل التواصل الاجتماعي، أو حتى عند التعريف بأنفسهم بأنهم أمريكيون من أصول فلسطينية.
إحدى القصص التي عرضتها صحيفة نيويورك تايمز تقول إن موظفًا فلسطينيًا في جوجل، فضل عدم الكشف عن اسمه، قد طلب منه مراجعة إدارة الموارد البشرية بعد توجيه اتهامات له من قبل زملائه بأنه معاد للسامية، وذلك لأن حسابه على الشركة يشتمل على عبارة "فلسطين حرة من البحر إلى النهر"، وطلب منه حذفها.
خلقت شركة جوجل بيئة من الرعب تحول دون تعبير الموظفين عن آرائهم ولاسيما فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية
ولم تكتف الشركة بذلك، بل وجهت إليه تنبيهًا رسميًا، وحصل على تقييم وظيفي متدنّ، لأول مرّة خلال عمله مع جوجل منذ سنوات، إضافة إلى حرمانه من مكافأة بقيمة 10،000 دولار، وتحذيرًا باحتمال تعرضه للتسريح من العمل في حال تكررت هذه "المخالفة". يقول هذا الموظف إنه اضطر للامتناع عن المشاركة في أي حديث سياسي في الشركة من بعد تلك الحادثة.
أما موظفو جوجل الذين سجلوا مقاطع صوتية تنتقد مشاريع شركتهم مع إسرائيل، فقالوا في حديث مع نيويورك تايمز إن التجربة التي مرّت بها كورين وغيرها هي دليل على خطورة مناقشة وجهات نظرهم علنًا إن دون المخاطرة بوظائفهم.