يقول جوزيه ساراماغو في رواية العمى على لسان إحدى الشخصيات : "لا أعتقد أننا صرنا عميانًا، أعتقد أننا عميان أصلًا. نحن عميان لكننا نرى، عميان بوسعهم أن يروا لكنهم لا يرون".
هذا القول يلخص فلسفة ساراماغو في الحياة والتي عكَسها بطبيعة الحال على رواياته، يشبّه ساراماغو الأمر بكهف أفلاطون، عندما تناول الحديث عن تقبل الآخرين للحقيقة بعد جهل طويل، حيث افترض الفيلسوف الشهير وجود مجموعة من الأشخاص المحتجزين داخل كهف مغلق بالكامل ولا يعتقدون بوجود عالم من حولهم، ومن بين هؤلاء الأشخاص الفيلسوف سقراط الذي أخرجه الحراس من الكهف ليرى الحياة خارج الكهف فظن من قوة نور الشمس أنه أصيب بالعمى، لكنها لم تكن إلا الحقيقة، الحقيقة التي تفيد بوجود عالم رحب وفسيح، يعود سقراط أدراجه ليخبر البقية، إلا أنهم لا يؤمنون بما يقول.
ومن هذا المنطلق يأخذنا ساراماغو معه في عالمه الروائي على خطى الفلاسفة، ليصفعنا بالحقيقة، ولكن كم شخصًا منا سيتألم من هذه الصفعة؟ وكم منا سيكون ممتنًا لها، وكم منا سيفهم؟
من هو جوزيه ساراماغو ولماذا لقب بكاتب التاريخ؟
هو جوزيه دي سوزا ساراماغو، كاتب روائي ومسرحي برتغالي، حاز على جائزة نوبل في الآداب عام 1998 عن رواية "العمى"، عُرف عن ساراماغو انحيازه للقضايا الإنسانية عامة ومن أبرزها القضية الفلسطينية، ففي عام 2002 عند اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية زار ساراماغو رام الله وأدلى برأيه الذي أثار سخط الجانب الصهيوني في ذلك الوقت، حيث قال "ما يحدث في فلسطين هو جريمة من نفس طراز ما حدث في معسكر أوشفيتز. إحساس بالحصانة يحيط بالشعب الإسرائيلي وجيوشه. لقد تحولوا إلى أشخاص منتفعين من الهولوكوست (المحرقة)". وقد علل ساراماغو هذا الغضب الساخط لإشارته إلى ما فُعل باليهود على يد النازيين ومقاربته مع ما فعلوه في الشعب الفلسطيني أثناء الانتفاضة. وعلى صعيد آخر وعلى الرغم من عدم إيمان جوزيه ساراماغو بالعمليات الاستشهادية التي كانت سائدة في ذلك الوقت مع أحداث الانتفاضة إلا أنه صرح قائلًا: "إسرائيل أمامها الكثير لكي تتعلمه إذا كانت غير قادرة على فهم الأسباب التي يمكن أن تؤدي بكائن بشري إلى أن يحول نفسه إلى قنبلة بشرية".
جوزيه ساراماغو عضو الحزب الشيوعي
انضم ساراماغو إلى الحزب الشيوعي البرتغالي في عام 1969 وظل عضواً فيه حتى نهاية حياته عام 2010، وقد كان باعترافه الشخصي نتشائمًا ولطالما أثارت أراؤه الكثير من الجدل في البرتغال، وخاصة بعد نشر روايته الإنجيل برواية يسوع المسيح، وقد أثارت الرواية غضب أعضاء الطائفة الكاثوليكية في البلاد بعدما صور ساراماغو المسيح وهو رمز الإله بأنه عُرضةٌ للخطأ مما يحمّله صفات إنسانية. لذلك قامت حكومة البرتغال المُحافظة، بقيادة رئيس الوزراء آنذاك كافاكو سيلفا، بإقصاء أعمال ساراماغو من المنافسة على جائزة Aristeion Prize بحجة أنها تسيء إلى المجتمع الكاثوليكي.
كان ساراماغو من مؤيدي الحزب الشيوعي واللاسلطوية، عُرف عنه أنه كان ملحدًا وقدم أيضًا العديد من الآراء المعارضة للمجتمع الكنسي كما يظهر جليًا في رواياته.
لماذا سمي ساراماغو بكاتب التاريخ
عمليًا، أطلق هذا اللقب على جوزيه ساراماغو بعد إطلاقه لرواية "تاريخ حصار لشبونة"، حيث قدم فيها وجهًا جديدًا للتاريخ من خلال مزج متوازن بين الحاضر والماضي، ويعرض فيها كاتبنا الفذ قضية إمكانية تزوير التاريخ ببساطة، إذا ما تملك تدوينه أصحاب الأهواء.
أبرز أعمال جوزيه ساراماغو
يقول الناقد الأميركي جون ميشود عن روايات جوزيه ساراماغو: "إن تلك الروايات، تبدو كما لو أنها لا تخرج من راوٍ واحد، بل من مجموعة من الرجال المسنين الأذكياء والثرثارين، الذين يتقاذفون الأحاديث على ميناء لشبونة، وهم يدخنون السجائر".
لا شك أن ساراماغو جدير بهذه المقولة، واستحقها بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. وإلى جانب ما تشير إليه المقولة من تجدد في روايات ساراماغو، إلا أنها تعنى كذلك سلاسة الفكرة وسهولة تناولها بالنسبة للكاتب، وهذا أمر لا يقدر عليه إلا كاتب فذ متمرس. فيما يلي مجموعة من أهم أعمال جوزيه ساراماغو.
-
رواية العمى
وهي الحائزة على جائزة نوبل للآداب لعام 1998، صُنفت على أنها واحدة من أهم الأعمال الروائية على مر التاريخ. تبدأ أحداث القصة عندما يصاب أحد الناس في الدولة بالعمى الأبيض، ثم يبدأ بالانتشار شيئًا فشيئًا في الدولة حتى تُعلن المنطقة برمتها بأنها منطقة منكوبة، حيث يتم احتجاز جميع المصابين معًا في مصحة نفسية متهالكة، لتبدأ رحلة الصراع مع الوجود بين المجموعات التي تتواجد هناك، ثم فجأة يبدأ الوباء بالانحسار شيئًا فشئًا حتى ينتهي الأمر بشفاء كل المصابين. من خلال قصته يعرض ساراماغو صراع الإنسان مع الإنسان وقانون الغاب الذي يسري في مجتمعاتنا الإنسانية من غلبة القوي على الضعيف، كما يتناول سيطرة الغريزة على النفس البشرية وانسياق البشر إليها دون أي رادع أخلاقي.
ومن الجدير بالذكر في هذه الرواية، عزوف الكاتب عن استخدام الأسماء والاكتفاء بذكر بعض صفات الشخصيات لا غير في انسجام مع فكرة الرواية الأساسية ربما وهي العمى.
-
رواية الطوف البشري
وهي رواية صدرت عام 1986، وفي هذه الرواية يطرح ساراماغو تساؤلًا مهمًا عما يمكن أن يحدث إذا ما انفصلت شبه الجزيرة الأيبيرية عن الجسد الأوروبي وأبحرت في المحيط الأطلسي؟ هذا السؤال الذي يرتبط بسؤال آخر له علاقة بأصول البرتغال ومصيرها وعلاقتها الغامضة بأوروبا: هل البرتغاليون والإسبانيون أوروبيون حقا؟ لأجل ذلك، يتخيل ساراماغو، أن صدعًا قد حدث وأدى إلى انفصال البرتغال وإسبانيا، حيث أصبحت تلك الجزيرة طوفًا يسير بلا اتجاه، قبل أن تتوقف في منتصف المسافة، الفاصلة بين أفريقيا وأميركا الجنوبية.
-
رواية انقطاعات الموت
من خلال تساؤل غريب يطرحه ساراماغو في هذه الرواية حول إمكانية الموت من أخذ إجازة يتناول الكاتب التبعات السياسية والروحية المترتبة على هذا الأمر. يجسد ساراماغو الموت في هيئة امرأة تقيم علاقة غرامية مع عازف تشيللو، وهنا يضع ساراماغو القارئ أمام تساؤلات جديدة، لماذا جُسد الموت في هيئة امرأة تحديدًا؟ وهل يعني من ذلك أن الموت قد يُهزم حقًا على يد الحب؟ عن هذا يقول ساراماغو" "لا أرى أنها قصة حب على الإطلاق، حتى لو اعتبر البعض أن الرواية هي انتصار للحب على الموت، لأن ذلك التفسير من وجهة نظري، ليس أكثر من وهم".
-
رواية قصة حصار لشبونة
وهي رواية يتناول فيها ساراماغو تاريخ حصار لشبونة بطريقة جديدة، من خلال قلب الحقائق. يعرض الكاتب إمكانية تزوير التاريخ بجرة قلم، حيث تقوم شخصية من شخصيات الرواية وهو مدقق لغوي بإضافة حرف نفي للرواية التاريخية الحقيقية فيزيف به الحقيقة كلها.
-
رواية نصب الدير التذكاري
رواية نصب الدير التذكاري رائعة أخرى للكاتب جوزيه ساراماغو، ولمعرفتها بشكل أفضل نقتبس ما كتب على غلافها من تعريف بها حيث يقول "تقوم الرواية على تفكيك للتاريخ داعية إلى إعادة التفسير والتفكير حول المجتمع، وداعية لإشراك القارئ في البحث عن معنى آخر للتاريخ، أقل طاعة للتفسيرات النخبوية، وأكثر انفتاحًا على المفاهيم الشعبية. تتباهى الروية بمجموعة من الشخصيات الرائعة التي تختلف بشكل فريد عن الطبيعة الاجتماعية مما يجعلها تسحر عقل القارئ وتخلق له تفاؤلًا وجوديًا، ورغبة في مواجهة الحياة نادرًا ما نجد شبيهًا لها في الرواية البرتغالية. بالإضافة إلى تركها لرسالة ضمنية خفيفة يظل صداها مترددًا بطريقة لا واعية في ذهن القارئ".
جوزيه ساراماغو المتشائم
أخيرًا، كما قاد الخمول ديكارت لتأمل الذبابة على السقف، فاكتشف على إثرها المنحنى الديكارتي، قاد التشاؤم ساراماغو لتأمل العالم بعين رمادية، فعبر من خلال رواياته عن نظريته في الحياة عامة وفي علم النفس خاصة، والمثير في الأمر أن الكاتب لا يشبه نفسه في رواياته، فكل رواية تُكتب من زاوية مختلفة وجديدة، يغوص من خلالها في أعماق النفس بطريقة فريدة ومبتكرة وغير مألوفة، فلا غرابة إذن من أن يكون واحدًا من أعظم الكتاب في العصر الحديث، فصاحب الأثر هو من يرى بعين مختلفة.