يثبت محمد شعير، بكتابه "أولاد حارتنا ــ سيرة الرواية المحرمة" (دار العين 2018)، أمرين: أولهما أن لا موضوع قابل للاستنفاد، وأن عبارة "قُتل بحثًا" هي مجرد مجاز يفتقد الدقة، ذلك أن كل موضوع، ومهما كانت درجة شيوعه، يبقى منطويًا على تأويلات وتفسيرات وتفاصيل لا تنضب، وخلافًا لما يعتقد كثيرون، فإن مرور الزمن لا يفني هذه الموضوعات في ثقب التقادم الأسود، بل هو يضيف زوايا رؤية، شواغل وهواجس، أدوات تنقيب.. جديدة، فتتفتح المسائل القديمة المطروقة بكثرة عن أفكار طازجة، معان وأسئلة متجددة.
تحول الاسم الأدبي إلى أيقونة لا يترافق بالضرورة مع زيادة المعرفة به وبنتاجاته، على العكس من ذلك فغالبًا ما تكون الأيقنة حجابًا
أما الأمر الثاني فهو أن تحول الاسم الأدبي إلى أيقونة لا يترافق بالضرورة مع زيادة المعرفة به وبنتاجاته، على العكس من ذلك فغالبًا ما تكون الأيقنة حجابًا، يحبس الرمز وراء سور من الأحكام النهائية غير القابلة للنقاش. هكذا نعتقد أننا بتنا نعرف كل شيء عن شكسبير، تولستوي، سارتر.. نعرف كل شيء عن نجيب محفوظ، وأن لا شيء جديدًا ليقال حوله وحول أعماله، إلى أن يأتي كتاب، مثل كتاب محمد شعير هذا، ليصدمنا بأننا لا نعرف كل شيء وأن جديدًا كثيرًا مما يمكن قوله لم يُقل بعد..
في حوار صحفي، يروي شعير حكاية كتابه: "في ديسمبر 2011، وبمناسبة مرور 100 عام على ميلاد نجيب محفوظ، سألتني الصديقة عبلة الرويني، رئيسة تحرير أخبار الأدب: ماذا سنقدم في مئوية نجيب محفوظ؟ أجبت على الفور: نجيب محفوظ قُتِل بحثًا، ولا أظن أن بإمكاننا إضافة جديد إلى مئات الكتب وآلاف المقالات والملفات الصحافية المنشورة عنه. لكن، لضرورات العمل الصحافي، كتبت وقتها عن مصر يوم مولده، من خلال صحف ذلك اليوم، واليوم الذي تلاه، أي 11 و12 ديسمبر. بعدها فكرت أنه يمكن أن أعمل على كتاب بعنوان "أيام نجيب محفوظ".. اخترتُ 9 تواريخ تخص محفوظ، لكنها أيضًا ترتبط بتاريخ مصر، في محاولة للإجابة على سؤال عن مصير الحداثة المصرية، وكيف تم إجهاضها".
كانت رواية "أولاد حارتنا" مجرد فصل تحت عنوان "21 سبتمبر 1959"، وهو اليوم الذي بدأت فيه جريدة الأهرام نشر الرواية. كان الفصل يمثل بحثًا عن تاريخ الرقابة في مصر، لكنه، كما يقول شعير، لم يتضمن كل شيء. "كانت هناك فجوات كثيرة، مثل غياب صوت محمد حسنين هيكل على سبيل المثال، وقد كان رئيسًا لتحرير الأهرام وقت النشر. ثم استطعت الحصول على موعد معه.. وتحدث باستفاضة عن أزمة الرواية، كاشفًا أشياء كثيرة وجديدة.. وطوال رحلة العمل كانت تتكشف أشياء جديدة، ولقاءات وحوارات وإشارات كان ممتعًا السير خلفها، وهو ما جعل الفصل يتضخم ويتحول إلى كتاب كامل".
في تدوينه لسيرة الرواية المحرمة، بدا شعير صحفيًا استقصائيًا بامتياز. نبش في مئات الوثائق والكتب والدوريات، والتقى بالكثير من شهود العيان والفاعلين والمعنيين، وجال على أمكنة كثيرة متقفيًا آثار أبطال تلك المعركة التي أشعلتها رواية محفوظ الخالدة. فمثلًا هو يسافر وراء ذلك العنوان الذي حملته رسالة قارئ كان قد احتج على نشر "الرواية المسيئة" في جريدة الأهرام، محاولًا التحقق من شخصية المرسل، وما إذا كان قارئًا وحسب، أم هو اسم مستعار لناقد ناقم، أو شيخ أغاظته الرواية وأراد إعدامها في حلقاتها الأولى.
يستهل محمد شعير كتابه بسرد لتفاصيل اليوم المشهود (21 سبتمبر/ أيلول 1959): "انخفاض مفاجئ في درجات الحرارة، الجو أقرب إلى البرودة، والسحب الخريفية تغطي سماء القاهرة، الشيوعيون في سجن المحاريق بالواحات، بينما تتواصل الحملات الإعلامية ضدهم. لص مجهول يسطو على كرمة ابن هانئ، بيت الشاعر أحمد شوقي على نيل الجيزة.. العناوين الرئيسية للصحف تتحدث عن مظاهرات حاشدة ضد عبد الكريم قاسم، بعد تنفيذ حكم الإعدام في عدد من قادة ثورة الشواف.. الصورة الرئيسية في كل الصحف تقريبًا لعبد الناصر بصحبته عبد الحكيم عامر يطلان لتحية الجماهير من نافذة قطار.. العناوين تركز على تصفية الاقطاع وتوزيع قطع من الأراضي الزراعية على الفلاحين".
إذًا، كل شيء يوحي بأنه سيكون يومًا عاديًا كأي يوم آخر، غير أن الحقيقة غير ذلك، ففي هذا اليوم نفسه قامت جريدة الأهرام بنشر الحلقة الأولى من رواية نجيب محفوظ "أولاد حارتنا"، وبذلك تكون قد أشعلت فتيل المعركة التاريخية التي ستشغل الأوساط الأدبية والفكرية والسياسية والدينية في مصر والعالم العربي طيلة عقود، ولا تزال أصداؤها تتردد حتى يومنا هذا.
في تدوينه لسيرة الرواية المحرمة، بدا شعير صحفيًا استقصائيًا بامتياز. نبش في مئات الوثائق والكتب والدوريات، والتقى بالكثير من شهود العيان والفاعلين والمعنيين
ويتابع شعير خيوط هذه الحكاية المثيرة والحزينة، مركزًا على كونها نموذجًا دالًا على علاقة الأدب بالسياسة وبالمؤسسة الدينية، وعلى نظرة المجتمع والسلطة إلى حرية الكاتب وحقه في التعبير.
وهكذا فالحصيلة لم تكن كتابًا صحفيًا شيقًا وحسب، ذلك أن المؤلف حرص على التقاط الدلالات الفكرية والاجتماعية لهذه السيرة، فبدا وكأنه يؤرخ لمسار سياسي اجتماعي طويل، لا نزال إلى اليوم نعيش في مآلاته المأساوية. فـ "أولاد حارتنا"، كما تقول كلمة الغلاف، ليست مجرد رواية يطرح فيها نجيب محفوظ أسئلته حول العدل والحرية، "إنها حكايتنا مع السلطة، كل سلطة، حكاية مجتمعنا نفسه وشوقه للتفكير خارج الصناديق الضيقة".