شغل أندريه مالرو منصب وزير الثقافة في الحكومة الفرنسية في ظل الجنرال شارل ديغول لمدة عقدين تقريبًا. ويقول مؤرخو تلك الحقبة إن المثقف الفرنسي الشهير كان وزيرًا فوق العادة، أقل من شريك في الحكم ولكن أكثر بكثير من مجرد موظف، وإن وهج الزعيم الكاريزمي لم ينل من ثقة الوزير بنفسه ولم يحوله إلى رجل شاحب قابع في الظل.
عندما يقف المثقف الحر إلى جانب السياسي ذي المشروع والذي يحسن استخدام أذنيه، نكون أمام تجربة فريدة
بالطبع، ومع ذلك، فإن مالرو نال نصيبًا ثقيلًا من النقد الجارح. معظم الذين أطلقوا سهامهم المسمومة إنما كانوا ينطلقون من موقف مسبق كان بمثابة مسلمة: لا يجوز للثقافة أن تكون في خدمة السلطة/ السياسة، ولا يجوز للمثقف أن يكون تابعًا للسياسي. غير أن الزمن، الذي اعتاد أن يخفف من غلواء المغالين وأن يعيد النظر بأكثر المسلمات رسوخًا، قدم أدلة على حالة مختلفة: عندما يقف المثقف الحر إلى جانب السياسي ذي المشروع والذي يحسن استخدام أذنيه، نكون أمام تجربة فريدة، لحظة تاريخية مشرقة قلما تتكرر..
يقدم كتاب مالرو "سقوط السنديان"، (ترجمه إلى العربية سامي الجندي)، صورة عن العلاقة التي ربطت المثقف بالزعيم السياسي: لم يكن تابعًا، ولا كاتب خطابات، ولا مجرد مترجم لأفكار القائد.. كان ندًا فكريًا، ومحاورًا صريحًا، محبًا وناقدًا في الوقت نفسه..
يقول سامي الجندي في تقديمه: "مالرو وجد رؤياه التاريخية في الجنرال. ارتباطهما لم يكن سياسيًا. كان أحد الأجوبة الهامة عن تساؤل حضارتنا: انحلال أم ازدهار.. بداية النهاية أم استمرار التطور؟ وحين يكمل رجل الخيال رجل الوقائع يصبح المصير أكثر وضوحًا.
ذهن مالرو كان شبيهًا بالسديم، تختلط فيه الأشياء في حركة شبيهة بالفوضى. حين نادى بتبييض باريس، ظنها الناس شطحة منه؛ غير أن الجنرال أدركها فأحالها إلى حقيقة.. الجنرال كان رجل الفعل الذي قلما يخطئ في حسابه. عرف سر الرؤيا عند مالرو ووثق بها".
ثمة أمثلة أخرى، فالمفكر وعالم الاقتصاد النمساوي ـ البريطاني فريدريك فون هايك كان بمثابة الأب الروحي لرئيسة الوزراء البريطانية الحديدية مارغريت تاتشر، والتي كانت، كما يقال، لا تنام كل ليلة إلا بعد محادثة هاتفية مع أستاذها ومرشدها. والنيوليبرالية التي أطلقتها تاتشر مع ريغان أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات، كانت في الأصل مشروع هايك وعدد من زملائه وتلامذته.
رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، توني بلير، ربطته علاقة مماثلة مع المفكر وعالم الاجتماع انطوني غيدنز، و"الطريق الثالث"، الذي تبناه بلير وروج له هو في الحقيقة المحور الأساس في مشروع غيدنز الفكري.
وقبل هؤلاء كان هناك جون ماينارد كينز الذي انطلقت أفكاره من بريطانيا عابرة الأطلسي ليتلقفها الرئيس الأميركي روزفلت ويجسدها فيما عرف بـ"نيو ديل"، والذي أسس لحقبة رخاء مديدة في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية..
علاقة محمد حسنين هيكل بجمال عبد الناصر لم تفد الثقافة ولا السياسة. الصحافة، مهنة هيكل الأصلية، شهدت أيامًا سوداء في ظل شراكة الصحفي الكبير المزعومة في صنع القرار
عربيًا ليس من أمثلة كثيرة عن علاقة صحية تربط المثقف بالسياسي، بل ربما ليس من أمثلة أصلًا.. والمثال الوحيد الذي يُستشهد به غالبًا لا يصلح لتقديم نموذج محمود. فعلاقة محمد حسنين هيكل بجمال عبد الناصر لم تفد الثقافة ولا السياسة. الصحافة، مهنة هيكل الأصلية، شهدت أيامًا سوداء في ظل شراكة الصحفي الكبير المزعومة في صنع القرار. أما سياسة عبد الناصر فلم تأخذ من هيكل سوى شعارات وتسويغات سرعان ما اكتسبت لدى الأجيال اللاحقة سمعة رديئة.
في العالم العربي لا يزال على المثقف أن يصغي إلى كلام كليلة وهو ينصح شقيقه دمنة: "... فإني أحذرك صحبة السلطان، فإن في صحبة السلطان خطرًا عظيمًا، وقد قالت العلماء: أمور ثلاثة لا يجترئ عليها إلا الأهوج، ولا يسلم منها إلا القليل: صحبة السلطان، وائتمان النساء على الأسرار، وشرب السم للتجربة، وإنما شبَّه العلماء السلطانَ بالجبل الوعر الذي فيه الثمار الطيبة، وهو معدن السباع المخوفة، فالارتقاء إليه شديد، والمُقامُ فيه أشدُّ وأهول".