30-مايو-2019

الفريق حميدتي (رويترز)

إلى وقت قريب جدًا لم يكن أحدًا يتخيل صعود قائد قوات الدعم السريع، الفريق محمد حمدان دقلو، الشهير بحميدتي، إلى سُدة السلطة في السودان، مزدانًا بالنياشين العسكرية، وصاحب كلمة ماضية في تصريف الشأن السيادي، فقد جاء كلحظة مخاض باغتة عند ولادة الثورة، وشغل الناس على نحوٍ مربك وباعث على القلق، والطمأنينة أيضًا، في مفارقة عجيبة.

أكثر ما يميز حميدتي أنه يمتلك جيشًا يخضع له بصورة عجيبة كما كان الجيش الفرنسي يخضع لنابيلون. وكلاهما جاء بعد ثورة ويؤمنان بالقوة والمجد

أصبح حميدتي نائبًا لرئيس المجلس العسكري، بمثابة الذراع الأيمن للفريق عبدالفتاح البرهان، وربما تكون رغبة قوى أخرى مؤثرة في المشهد السوداني، فتحوّل إلى ظاهرة سياسية أسفرت عن طباع البدوي الذي يتسم بالصدق الجارح والكرم الحاتمي، إلى جانب أصالة غير معاصرة، وخطاب بسيط مرهق عند إعادة تحريره صحفيًا.

اقرأ/ي أيضًا: لغز صلاح قوش.. أين اختفى الصندوق الأسود لحكومة البشير؟

لطالما كان حكام السودان من أبناء المدينة أو على الأقل عاشوا فيها ردحًا من الزمان، فتمدنت طباعهم ونهلوا من بحور السياسة والثقافة، وراسِخ تقاليد الدبلوماسية، أو ترقوا في الرتب العسكرية شيئًا فشيئًا. وربما هي الحالة الأولى النادرة التي انهارات فيها تصورات القائد الممتاز، ابن بيئته، أو كما زعم الفيلسوف اليوناني سترابو: "طبيعة روما الممتازة خلقت الشعب الروماني الممتاز"، بينما يمكن دحض سترابو بأن مناطق الاستبس التي لا تصلح إلا للحشايش والرعي، نظرًا لترابط مجتمعاتها؛ أقدر على هزيمة غيرهم لو ظهر بينهم زعيم قوي، كما كان الحال عند ظهور جنكيز خان.

ولعل أكثر ما يميز حميدتي أنه يمتلك جيشًا يخضع له بصورة عجيبة، كما كان الجيش الفرنسي يخضع لنابيلون، وكلاهما جاء بعد ثورة، ويؤمنان بالقوة والمجد، بدلالة أن نابليون حين دخل روما قال له المستشارون إن البابا غاضب، فرد عليهم بسؤال: "كم مدفعًا يملك هذا البابا؟!".

في محاولة لفهم حميدتي الظاهرة، استعار الدكتور عبدالله علي إبراهيم عبارة "صدأ الريف"، أي ما علق به من إهمالٍ لفرط تجاهل السلطة المركزية. وقال إبراهيم في تدوينة عبر صفحته بفيسبوك، إن "الريف السوداني متصحر جدًا، تسيطر عليه الإدارات الاهلية، التي تجمع بين القضاء والإدارة، وهذا جمع ضار"، على حد وصفه، منبهًا إلى أن الحياة في الريف تتعرض للتصحر وضيق الرزق، وأنه حين يذهب مواطن الريف إلى المدينة، بدلًا من النظر إليه كضحية نظام سياسي، يتم تجريمه ونبذه.

لكن حميدتي الذي ينتمي إلى إحدى قبائل غرب السودان، كان يعمل في التجارة، ومع اندلاع شرارة الحرب في دارفور، انضم للقتال إلى جانب الحكومة السودانية ضمن قوات حرس الحدود، وتم استنفاره لمواجهة التمرد. 

بعد ذلك برزت قدراته، فأصبح قائدًا لقوات الدعم السريع الذي توسعت بصورة هائلة، وسرعان ما منحه البشير ترقيات استثنائية ووضعية قانونية، إلى جانب مهمة القتال في اليمن تحت قيادة التحالف السعودي، وحقوق حصرية في التنقيب عن ذهب بجبل عامر.   

ومن المثير للاهتمام، أن حميدتي شغل منصب الرجل الأول أثناء جولات البرهان الخارجية، والتي امتدت لنحو أسبوع تقريبًا، وبدا في مواجهة أعباء الحكم والتصدي للاحتجاجات المتواصلة والإضراب الذي دعت له قوى الحرية والتغيير. 

هنا ابتدر حميدتي جملة خطابات مصادمة، استعار فيها مخزونه الثقافي واللغوي، في مقابل جهد خرافي لقراءة تلك الخطابات، والسخرية منها، أو الاستهزاء لدرجة أنها تحولت أحيانًا إلى "إفيهات"، وشاعت في تفاعلات السوشيال ميديا. هنا كسب الرجل معركته الأولى، من خلال اعتقال الأضواء وإجبار الناس على إعادة اكتشاف اللغة التي يتحدث بها.

وفوق ذلك، هرع المثقفون إلى قراءة أطروحة النور حمد حول ما أسماها "بنية العقل الرعوي"، التي تحُول دون اكتساب قيم الحداثة، ويصبح من ثمّ طاقةً معيقةً لجهود التغيير.

وكان النور سباقًا في الطرح، لكن صعود حميدتي ربما استعجلَ البعض لاستكنهاه إشكالية راهنة، لا مفر من جملة تدابير لمواجهتها كما يبدو. ولعل تلك الأطروحة لم تنفك بأي حال عن جدلية القرية والمدينة، أو الهامش والمركز، بكل حمولاتها التاريخية. والأدهى والأمر، أن كل حروب السودان تكاد تكون غارقة في ذات دائرة العنف، حيث انفصل الجنوب عن الشمال بحجة التهميش، والآن دارفور تلعق جرحها.

في معمعة الخصومة يوصم حميدتي بـ"راعي الإبل"، وأحيانًا بعدم المعرفة والانكفاء على القبيلة، دون مراعاة حساسية المشكلة السودانية. لكن هنالك من أنصف الرجل بأن الرتبة العسكرية التي حصل عليه نظير معرفته بالحرب وأهوالها، ودهاء سياسي جعله ينتصر في كل المعارك التي خاضها، حتى أنه رفض توجيهات عمر البشير بقمع المظاهرات، بل مضى أكثر من ذلك، منحازًا للثورة. ومن قبل ذلك، استعانت به القارة العجوز في مكافحة الهجرة غير الشرعية، ربما لأنه العارف بطبيعة الدروب، والأكثر إخلاصًا فيما يقوم به من عمل. واليوم كثير من الدراسات الغربية تنظر إليه كقائد محتمل للسودان.

مخاوف أبناء المدينة من قوات الدعم السريع، تبدو مخاوف مشروعة نسبيًا، إذ إن هذه القوات ذات طبيعة قتالية، ولا تصلح لمهام داخل العاصمة؛ لأن الشرطة رغم كل شيء، هي الأكثر معرفة وخبرة في التعامل مع الناس والشوارع، وتطبيع الحياة العادية، بينما الجيش والدعم السريع وظيفتهم القتال، فقد تم إعدادهم وتسليحهم للقتال، والتنازع معهم أو مقاومتهم يعني اندفاع الرصاص، والرصاص يعني الموت، والموت هو الخسارة الفادحة. بينما الشرطة تتدرج شُعب مهامها: أدناها إماطة التروس عن الطريق، وأقسى ما يمكن أن يؤذي منها هو رائحة البمبان المألوفة، أو الاعتقال القانوني على أسوأ الفروض.

لم يكن حميدتي مشغولًا بالسلطة، حتى طلبت منه قوى المعارضة التدخل وحمايتها من كتائب الظل، بفهم أن الرجل غير طموح ويمكن الطبطبة عليه والتخلص منه بسهولة، فهو ليس أكثر من رافعة لنيل نبلاء السياسة ووجهاء المجتمع المدني ما يصبون له من وزارات ومناصب رفيعة. وإنه، أي حميدتي، يمكن استئجاره لحينٍ أو استخدامه كلاعب في رقة الشطرنح للقضاء على الملك، فهو مجرد قروي، أو ضابط خلاء، تعوزه الحكمة والكياسة. 

أفلت حميدتي من قبضة النخبة السياسية ومن قدر أمراء الحرب الحزبين. وهو اليوم قائد جيوش ورجل دولة تسعى المحاور الإقليمة لكسب وده

لكن على العكس من ذلك، استطاع حميدتي أن يفلت من قبضة النخبة السياسية، ومن قدر أمراء الحرب الحزين، وهو اليوم قائد جيوش ورجل دولة، تسعى المحاور الإقليمة لكسب وده.

 

اقرأ/ي أيضًا:

صراع العروش في السودان

متاريس ثورية.. السودانيون في مواجهة استقواء العسكر بالمحور السعودي