تركز الصراع في السودان على مر العصور حول السُلطة، وكان الصعود إلى القصر الرئاسي قبالة مقرن النيلين، دائمًا هو الغاية التي سعت لها كل القوى السياسية، أحيانًا عبر الحروب والتحالفات والقبائل الساعية للمجد، وأحيانًا أخرى عبر الانقلابات العسكرية، بشكلٍ تفجرت فيه سلسلة "الجليد والنار" من كافة شُرفات المِحنة الوطنية.
أحيانًا يشبه مسلسل "صراع العروش - Game of Thrones" الواقع في السودان من حيث قصد ألا يشبهه!
في يناير/كانون الثاني من عام 2015، افتتح عمر البشير قصرًا أشبه بمبنى الكرملين، ليصرف منه المهام السيادية، ولم تتوقف "بروفات" التدشين وقتها لعشرة أيام، حتى تسنى للخرطوم كلها مشاهدة الألعاب النارية، والأجنحة المزدانة بأحواض السباحة وجنائن الأسماك الملونة والثريات الهائلة واللوحات التشكيلية العملاقة، وسور عالٍ ينأى بالسيارات والعابرين بعيدًا، فهو بالضبط قصر ملكي لمرحلة ملكية كان يتهيأ لها الجنرال المخلوع.
اقرأ/ي أيضًا: 5 دروس حول السلطة نتعلمها من مسلسل "Game of Thrones"
ورفض الإمام الصادق المهدي حضور ذلك الحفل، لأنه ظل يضمر كراهية للبشير الذي انقلب عليه بليلٍ قبيل ثلاثة عقود تقريبًا، ما يعني أن الاحتفال بالنسبة للمهدي عرضًا مستفزًا واستعراض لشرعية منهوبة.
مكث البشير في قصره الجديد حوالي أربعة أعوام، وقد احترق المبنى الأبيض في رمزية مدهشة، كان ذلك قبل أن يقتلعه نائبه الفريق جعفر بن عوف، الذي أذاع البيان الأول، وغادر القصر مرغمًا بعد يوم واحد فقط، من ثم جاء الفريق عبد الفتاح البرهان، مزهوًا بالنياشين في مكان ربما لم يكن يحلم على الإطلاق أن يصبح سيده في يوم ما.
ولكن الأغرب في هذا المشهد الفانتازي، أن البرهان ليس هو الرجل الأقوى والأخير في المجلس العسكري، فهو ليس أقل من وضعٍ موقت لعبور الأزمة، فهنالك محمد حميدتي، راعي الإبل الذي أصبح جنرالًا يستأثر بالقوة والنفوذ، ما يعني في لعبة الدومينو توالي السقوط إذا سمح بذلك، وبالمقاربة مع مسلسل "صراع العروش - Game of Thrones"، فالاحتفاظ بالمفاجأة للنهاية، وربما أيضًا خلط الأحداث وتكثيف الغموض لبداية موسم جديد.
تحتفظ العديد من أطراف المعادلة السياسية في السودان بكروت ضغط تتفاوت قوتها نسبيًا: تجمع المهنيين الذي فجر الحراك، يمتلك ميدان الاعتصام والقدرة على تنظيم حركة الاحتجاج وتسيير المواكب، لكنه يعاني أزمة قيادة، وتقاطع أجندة مكوناته المتمثلة قي قوى الحرية والتغيير، واللاعب الأخر هو المجلس العسكري الانتقالي، الذي يحظى بالدعم السعودي الإماراتي، يحتكر أدوات القوة الباطشة، لكنه في ورطة أخلاقية، فقد استولى على الحكم ظاهريًا، بحجة الانتصار لمطالب الشارع، ويستمد شرعيته من الثورة، بالتالي ليس أمامه من خيار سوى تسليم السُلطة للمدنيين، والعودة للثكنات، وهو خيار لا يبدو أنه يسعى نحوه بأي حال.
المثير في الأمر أن الفريق صلاح قوش، مدير المخابرات الأسبق، هو المدير التنفيذي للانقلاب، وقد تمكن من إقناع اللجنة الأمنية بالإطاحة بالبشير، لكنه بعد ذلك فقد زمام السيطرة على الأمور، وأُجبر على الاستقالة، ووضع تحت الإقامة الجبرية بشكل مفاجئ.
ومع ذلك لم تظهر أي صور للبشير والحرس القديم المعتقل حاليًا في سجن كوبر، بل إن التهم التي وُجهت للبشير "غسل وحيازة أموال دون مسوغ قانوني"، لم تكن التهم التي يلزم توجيهها، بل لعلها الأخيرة في ما يمكن أن توجه إلى ديكتاتور اغتصب السُلطة عنوة وثار شعبه عليه!
أما الفصيل الذي الذي يصعب تجاهله، فهم جموع الإسلاميين، وإلى جانبهم ما يعرف بـ"الدولة العميقة". ورغم أن روح إحباط مميتة تسربت في أوصالهم، وخيبة أمل كبرى انتابتهم إزاء التجربة المريرة التي أفضت بقادتهم إلى السجون، إلا أن المحنة والشعور بالخطر في الغالب سوف يوحدهم، لأنهم أدركوا أن ثمّة عامل خارجي يريد أن يقضي عليهم دفعة واحدة، بحيث تسعى الإمارات عبر رجالها في الداخل لإحكام السيطرة على الأوضاع، وهذا يعني أن الهدف الأخير ليس استعادة الديمقراطية، وإنما نسف تيارات الإسلام السياسي مرة وللأبد، وصناعة سيسي سوداني في الغالب.
في مسلسل "صراع العروش" الذي يعرض موسمه الأخير هذه الأيام، تحتبس الأنفاس خشية أن يفتك الوحش الأبيض بالممالك السبع. وإزاء الحبكة المبالغ فيها والمفاجآت الصادمة واستمالة المُشاهد لدرجة اعتقاله بكل جوارحه في معترك الأحداث؛ فإن هذه العمل الدرامي الهائل يشبه الواقع أحيانًا من حيث قصد ألا يشبهه!
دوافع الصراع السياسي والرغبة في السيطرة والانتقام واندلاع الشر والعنف، والثورة المضادة، تمضي وقع الحافر بالحافر في بلادنا، ولذلك تشعر بأن الأبطال والخونة والضحايا والمستشارون هم أنفسهم الأبطال والخونة والضحايا والمستشارين، حتى أن البطل جون سنو الذي كان يحرس السور في "قلعة ونترفيل" يشبه إلى حد كبير الجنرال حميدتي، الذي كان أيضًا أحد جنود قوات حرس الحدود على الجبهة الغربية، وبرزت نجوميته بشكل لافت بعد أن أصبح قائدًا للدعم السريع، وها هو اليوم يقترب من القصر الجمهوري، الذي يشبه القصر الحديدي في مملكة ويستروس الخيالية.
ثمة امرأة أيضًا تسعى بقوة لاسترداد عرش والدها الذي كان آخر رئيس وزراء سوداني منتخب، وهي مريم الصادق المهدي، التي تطوعت بالقتال في تسعينات القرن المنصرم ضد حكومة البشير، وتنقلت بين الأحراش وطاولات التفاوض، والمشاركة في الحراك الثوري، حتى كسرت الأجهزة الأمنية يدها وأودعتها السجن.
مريم اليوم هي واحدة من قادة قوى الحرية والتغيير. وقد زارات الإمارات سرًا قبيل أيام بصورة غامضة، إذ كانت تبحث عن الدعم والمؤازرة، وهي تشبه إلى حد كبير شخصية "دينيريس تارغيريان" أو "أم التنانين"، التي لا تزال تخوض الحروب الأسطورية من أجل استعادة العرش الحديدي، فكيف ستكون نهاية مغامرة مريم من أجل استعادة عرش والدها الصادق المهدي؟
لا يبدو حتى الآن أن هناك حلف سوداني قادر على التماسك والعبور بالبلاد، فالكل متربط بالآخر، والكل يخطط للسلطة
لا يبدو حتى الآن، أن ثمة حلف سوداني قادر على التماسك والعبور بالبلاد، فكلٌ يتربص بالآخر: قوى الحرية والتغيير تتصارع في الظلام من أجل منصب رئيس الوزراء، والحركات المسلحة تتأهب لإحداث مفاجأة ربما تكون صادمة، والجيش مسكون بالضباط المغامرين، أما قائد قوات الدعم السريع الفريق حميدتي، فهو لا يملك مشروعًا واضحًا، وبالتالي لا يمكن أن يقودنا رجل لا نعرفه، إلى مصائر لا يعرفها.
اقرأ/ي أيضًا:
ورطة البشير بين المذهب المالكي وعقيدة بوتين.. من يكاتب الجنرال في سجن كوبر؟