14-أغسطس-2023
كاريكاتير لـ فلاديمير كازانفسكي/ أوكرانيا

كاريكاتير لـ فلاديمير كازانفسكي/ أوكرانيا

في الفترة التي تلت اندلاع الثورة الفرنسية، كان جاك لوي ديفيد أحد الفنانين المفضلين للحكومة التي كانت تقود الثورة. كان يعمل بشكل مستمر على تصوير أحداث الثورة وشخصياتها الرئيسية بطريقة تعكس إشادته بتلك المرحلة التاريخية الهامة في فرنسا.

ومع ذلك، عندما تولى نابليون بونابرت السلطة كقائد لفرنسا، شهدنا تغييرًا ملحوظًا في رؤية ديفيد. بدلًا من التعبير عن رفضه للانتهاكات والقمع التي شوهت فترة حكم نابليون، قام ديفيد بتصويره بشكل إيجابي وتمجيد دوره وإنجازاته. مثل هذا السلوك يكشف عن نفاق بعض الفنانين وانحيازهم للأنظمة الدكتاتورية بشكل يعاكس تطلعات الناس.

ألا يفترض بالفنان أن يسخر فنه ليكون مرآة عاكسة للواقع بكل ما يحمله من مآسٍ؟ أم أن هذا مجرد تنظير يفتقد لما يؤسس له على ويدعمه؟

يقع على عاتق الفن دور هام في رصد أحداث العصور والتعبير عن المشاعر والأفكار وتوثيق الحقائق التاريخية. وعندما يتم استخدامه كأداة للدعاية والترويج للسلطة القمعية، فإنه يفقد قوته

ربما يكون السبب وراء انسياق أولئك هو الخوف من التدخلات القمعية التي يمكن أن يتعرضوا لها في حال عبروا عن معارضتهم بصوت عال يمكن سماعه، وربما تكون المصالح والمغريات. في كل الأحوال لا بد وأن يكون لهذا التصرف تأثير سلبي على الفنانين وعلى الفن نفسه.

يقع على عاتق الفن دور هام في رصد أحداث العصور والتعبير عن المشاعر والأفكار وتوثيق الحقائق التاريخية. وعندما يتم استخدامه كأداة للدعاية والترويج للسلطة القمعية، فإنه يفقد قوته.

حملت اللوحة الشهيرة "العملاق" للرسام الإسباني فرانثيسكو غويا عدة تحليلات، لكنها جميعًا وإن اختلفت فإنها بدون شك تمثل تصورًا رمزيًا لحرب الاستقلال الإسبانية.

تُعد نقوش الكهوف الصخرية في لاسكو بجبال الألب الفرنسية من أقدم الأعمال الفنية في العالم. تصور هذه النقوش الحياة اليومية للناس والحيوانات والأحداث الاجتماعية التي كانت مهمة للفهم التاريخي لذلك الوقت.

وكمثال إضافي شهير فإن لوحة الغرنيكا تعتبر من أشهر اللوحات التي تعبر عن المأساة البشرية. ضمنها بابلو بيكاسو رؤيته الذاتية عن تدمير قرية غرنيكا جراء الغارات الجوية النازية، وتشير اللوحة إلى الفظائع التي تعرضت لها السكان المدنيين.

حظرت الحكومة الشيوعية في الاتحاد السوفييتي الكاتب ألكسندر سولجنيتسين بسبب تأليفه لروايته "الجلادون والضحايا" التي كشفت الفظائع التي ارتكبها النظام الشيوعي. لاقت روايته ترحيبًا شعبيًا وانتشارًا واسعًا بالخارج، لأنه كتب عن قضايا الحقوق الإنسانية والقمع السياسي.

كانت تلك مجرد أمثلة قليلة من العديد من الأعمال الفنية التي توثق الحقائق التاريخية، ولو اقتصرت مهمة الفن على عكس الحقائق لكفى الفن بذلك أهمية.

فهل يمكن إذا القبول بإطلاق صفة فنان على من يمتهن الفن امتهانًا ليزيّف حقيقة؟

هذا سؤال يحتاج للتفكير مليًّا. لقد قرأت سابقًا مقولة ينسبها البعض لتولستوي مخاطبا الجمهور: "هل تقبلون أن يعظكم سافل من على خشبة مسرح؟". وبالتأكيد فلن يكون مقصد تولستوي في هذه الحالة أن التمثيل مهنة للسفلة، بل إن السفلة لا يحق لهم صعود المنابر واعتلاء خشبات المسارح.

يقول تولستوي مخاطبا الجمهور: "هل تقبلون أن يعظكم سافل من على خشبة مسرح؟". ليس مقصد تولستوي أن التمثيل مهنة للسفلة، بل إن السفلة لا يحق اعتلاء المنابر

عندما يخذل الفنان جمهوره بمواقفه المنحازة للحكم الشمولي فسوف تتأثر علاقته بجمهور بشكل سلبي. تلك العلاقة التي بنيت أصلًا على التفاعل المتبادل، قد يفقد الجمهور الثقة بالفنان ويشعر بالخيانة، خاصة إذا كان للفنان تأثير كبير على الجمهور أو يمتلك قاعدة جماهيرية كبيرة.

يتعامل الجمهور مع هذه الخيانة بعدة طرق، بعضهم قد يقاطع أعمال الفنان ولا يدعمها، بينما قد يقوم البعض الآخر بالتعبير عن استيائهم ورفضهم للمواقف المنحازة، ومن الطبيعي أن يتعامل أي شخص من الجمهور بشكل يفتقد للعقلانية فهو يعتقد بأن علاقته مع فنانه الخائن، من وجهة نظره، كانت قد أُسست سابقًا وفق دوافع عاطفية بحتة، وهذا ما يفسر لي شدة غضب الناس من الممثلين تحديدًا، فقد اعتادوا أن يدخلوهم بيوتهم عبر الشاشات وأن يستمعوا بقلب مفتوح لدعاباتهم في المسلسلات وأن ينخدعوا بمواقفهم النقدية عبر برامجهم الترفيهية، لينقلب كل ذلك لسخط ما أن يتوقع الجمهور موقفًا حديًّا وجذريًّا من أولئك الفنانين.

ورغم ذلك تبقى العلاقة بين الجمهور والفنان قضية منفصلة عن الأعمال الفنية بذاتها، فقد يستمر البعض بالدفاع عن الأعمال الفنية للفنان بغض النظر عن مواقفه المنحازة.

في النهاية، يعتمد تأثير هذه المواقف على ردود فعل الجمهور وقدرة الفنان على التعاطي معها وإصلاح العلاقة المتضررة بينهما.

خيانة الفنان لجمهوره قد ترمم، ولكن خيانة الفنان لفنه أمر آخر.