17-أغسطس-2015

البيت ليس مأوىً فقط بل هو ذاكرة لساكنه (Getty)

الباب الخشبي العتيق ليس ممرًا للداخل فقط بل ممرٌ للعودة بالزمن أيضًا. العتبة فاصل زمني في بيت السيدة نديمة ياسين الطيني في قرية تمنين التحتا البقاعية. يأخذك السقف المصنوع من الجذوع الخشبية إلى أزمنةٍ أخرى. ثم يأتي صوتُ من بعيدٍ ليعيدك إلى الواقع كمن يستفيق من جلسة تنويمٍ مغناطيسي، إنه صوت السيدة الستينية "بنى أبي هذا البيت الطيني منذ 80 عامًا".

في التاريخ والانتشار

البيت الطيني يقلل من الفردية على عكس البيوت الحديثة المصممة بطريقة تعزز الشعور بالوحدة داخل البيت

لا تحمل الأمكنة ملامح أصحابها وحسب، بل تحمل تاريخًا بكامله. البيوت الطينية في سهل البقاع اللبناني تمثّل الوجه العمراني التقليدي لأهالي هذه المنطقة. وهذا النوع من العمارة "يعود إلى آلاف السنين"، كما يشرح المهندس المعماري رهيف فياض، و"يرتكز وجوده أساسًا على توافر مواد بنائه من تراب وخشب وطين، لذلك تنتشر بيوت الطّين، في المناطق الداخلية والسهلية كسهل البقاع في حين تغيب في المناطق الجبليّة حيث يشكّل الحجر المادة الأساسية للعمارة". وعن تطور نماذج العمارة بالطّين يقول فياض "عرفت بيوت الطّين عدّة نماذج مرتبطة بالتطور العمراني، فكانت أولًا بيوت المربع المقفل ثمّ بيت المستطيل وكلاهما مقسم إلى عدة أقسام وهي الغرف، وبعدها ظهرت نماذج أخرى كالرواق أي المنزل الذي له سقف في مقدم الدار. وتبنى هذه البيوت أحيانًا من عدّة طوابق كما في قرية يونين البقاعية".

التراب الطين والخشب هي المواد الأولية لبناء البيت الطينيّ. تتحدث نديمة ياسين عن مراحل بناء المنزل الطيني "تبنى الجدران من اللبن الناتج قوالب مربعة من تراب ثم يُغلّف التراب بالتبن المجبول بالماء والتراب، ثم يدهن بالطين الابيض. أمّا السقف فهو مصنوع من جذوع الأشجار التي تليها الأغصان ثمّ الأوراق فالتراب". وفيما يتعلق الهندسة الداخلية للبيت يقول فياض "البيت الطيني مقسم إلى غرف متصلة مباشرة، ببعضها البعض أو عبر ممر داخلي، وهذا التصميم ليس حكرًا على البيوت الطينية وحسب، بل هي هندسة نجدها في كل البيوت التقليدية، بغض النظر عن مادة العمارة، وبالنسبة للأبواب فهي خشبية".

ويضيف فياض: "ما يميّز الجدران في البيوت الترابية هي الفتحات التي لها بُعد جمالي وتستخدم لتخزين الأشياء والطعام أيضًا. وتسمى هذه الفتحات بالخرستانات، والموقدة المصنوعة من الطين تُستعمل للطبخ والتدفئة آنٍ واحد".

اقرأ/ي أيضا: "مؤخرة كيم كارداشيان" للبيع في الشياح!

الحافظ على البيوت الطينية عملٌ شاقّ

البيت الطيني أفضل من بيت الباطون لإيجابياته المتعلقة بالحرارة

في قرية الخريبة الواقعة في سلسلة جبال لبنان الشرقية يقع منزل موسى موسى الطيني. يفتخر الرجل السبعيني بمنزله الذي يتجاوز عمره المئة سنة، ويتحدث بشغفٍ عنه: "طلب مني أولادي أهدم المنزل وأعمّر مكانه بيت من الباطون ولكنني رفضت، عالرغم من الجهد الكبير الذي أبذله سنوياً للحفاظ عليه". ويضيف: "البيت الطيني يحتاج إلى الإعتناء الدائم وإلا لسقط السقف فوق رؤوسنا، فالسطح يحتاج إلى الحدل دوريًا".

أما جارته نعمة مفلح الستينية ، فاستبدلت السطح الترابي بآخر من باطون "لم أعد استطيع ان أقوم بأعمال الحدل فهي تتطلب جهدًا جسديًا كبيرًا ولم أعد أقوى على ذلك، كنت في الشتاء أقضي معظم الوقت على السطح". وتضيف "أقوم كل سنة بتطيين الجدران وطليها بالطلاء الترابي للحفاظ عليها". من جهتها، تصف نديمة ياسين العناية ببيتها الترابي بـ"العمل الشاقّ"، وتقول "نصعد في أيام البرد القارس عندما يتساقط الثلج إلى السطح لنزيل الثلج عنه ونحدله، وفي أول الصيف نعيد طلاء الجدران من الخارج وأزيل الأعشاب التي نبتت على السطح".

بين الطين والباطون

يُجمع كلٌّ من نديمة و موسى ونعمة على أنّ البيت الطيني أفضل من بيت الباطون لايجابياته المتعلقة بالحرارة، فهو يحافظ على الدفء في الشتاء وعلى البرودة في الصيف. ويقول فياض أن "سبب ذلك يعود سماكة الحائط في البيوت الطينية كبيرة، متر تقريبًا ويطلى بالطين من الخارج والداخل لذلك لا تخترقه أشعة الشمس بسهولة وبالتالي يكون أكثر برودة من بيوت الباطون، وفي الشتاء يحتفظ الطين بالحرارة لفترات طويلة لذلك يكون البيت الطيني أكثر دفئًا من بيوت الباطون الحديثة".

وكذلك يعتبر فياض أن "البيت الطيني يقلل من الفردية على عكس البيوت الحديثة المصممة بطريقة تعزز الشعور بالوحدة داخل البيت"، ويضيف أن البيوت التقليدية بشكلٍ عام تحافظ على الحياة الإجتماعية ولا ينشئ ما يسمى بالفردية والعزلة بل على العكس تساعد على تماسك أفراد العائلة".

البيت ليس مأوىً فقط بل هو ذاكرة لساكنه، يقول موسى :"هذا البيت هو ذاكرتي فيه تربّيت وفيه ربّيت أولادي ولي فيه ذكريات خمسة وسبعين عامًا، لا أستطيع استبداله بأي منزل آخر حتى ولو كان قصرًا".

اقرأ/ي أيضا: مكتبة طرابلس والسائح فيها