يقول المخرج المسرحي الشهير بيتر بروك: "الاجتهاد يعادل الموهبة أو يكاد يفوقها". وهو بذلك يفتح الطريق أمام أولئك الأشخاص الذين يتفق وأن يغرموا بفن التمثيل، ولكن مواهبهم الشخصية تبدو محدودة حينما تقارن بالمبدعين.
هذا يقودنا بالتأكيد للتفكير مليًّا قبل تحديد تعريف ثابت للموهبة، لأنه وعلى الرغم من اعتقادنا بأن الأمر يبدو بديهيًا بالنسبة لنا كبداية إلا أنه شائك ومعقد جدًا حينما نغوص في حيثياته.
الموهبة ترتبط بدون شك بعوامل كثيرة منها الداخلي كالخيال والانتباه والتركيز والذاكرة وصحة البدن وتفوق جيناته، ومنها الخارجي كالعادات والأعراف وطرائق الحياة والتجارب.
ترتبط الموهبة بدون شك بعوامل كثيرة منها الداخلي كالخيال والانتباه والتركيز والذاكرة وصحة البدن وتفوق جيناته، ومنها الخارجي كالعادات والأعراف وطرائق الحياة والتجارب
تختلف أيضًا النظرة للموهبة حسب المجتمعات وميولها العامة، فالصينيون قديمًا يرون أن الموهوب هو ذلك الشخص الذي يتقن الموسيقى والشعر، وهو بذلك يكون الإنسان البارع والذكي، أما بالنسبة لليونانيين فالذكي الموهوب هو الحكيم، والحكمة هي الفلسفة، أي أن الموهوب الذكي بالنسبة لهم هو ذلك الإنسان الذي يمنطق الأمور عقلانيًّا.
يثير بحث الذكاء حاليًا الشهية للتأمل والتفكير، فمن المريع حقًا أن البعض لا يزال يعيش في قوقعة نفسه ظنًّا منه بأن الذكاء الفطري لا يزال ميزة تؤهله ليكون في موقع المتفوق أو الوصي، بينما يقول الواقع إن التطور العلمي والتكنولوجي جعل من المجتمع البشري مجتمعًا يشبه مجتمع النمل من حيث الشدة في تخصيص العمل وتوزيع المهام، وبالتالي تراجع الذكاء الفطري خطوة للوراء لصالح الاجتهاد في الاختصاص. ومناقضًا لهذا المجتمع من حيث الأنانية وحب التفرد مما يعني تقدم الذكاء الفطري خطوة للأمام، وبين هذا وذاك يتأجج الصراع الداخلي للفرد في مواجهة رغباته وتحقيقها.
ذلك كله يجري بشكل طبيعي في المجتمعات المستقرة، فلك أن تتخيل كيف ستكون الأمور في مجتمعات تعرضت لصدمات جمعية كبيرة جراء مصائب عظمى كحرب أهلية أو زلزال.
كيف ستكرس المواهب وكيف سيستعمل الذكاء كوسائل للنجاة؟ كيف سيشعر من يعتقد بأنه بذل جهدًا مضنيًا خلال حياته ليصل لمكانة ما ثم يجد نفسه في موقع صفري أمام من تربع على قمة بسبب اختلال موازيين الواقع؟ وكيف ستكون الحال من استطالة عمر الأزمات في ظل انشغال العالم وتجاهله لمصائب مجتمعاتنا؟
في تلك الاستحقاقات الكبرى تسقط الاعتبارات الأخلاقية ويغدو الذكاء مفهومًا مريبًا، يمتدح تحت اسمه كل سلوك يرتفع بصاحبه حتى لو كان سلوكًا مشينًا.
ولذلك فسوف تواجه ذلك الإنسان، الموهوب الحقيقي عوائق لا يتمكن من تخطيها مهما حاول، لأنها عوائق تخالف ما جبل عليه وتطبع به، وسيصبح الأمر معاكسًا بالنسبة لشبيه الذكي ومحدود الموهبة، فالأمر حينها لا يتعلق ببذل جهد صادق بل بابتذال الصدق والحقيقة ذاتهما، وهذا هين عليه.
يمتهن ذلك الصنف الأخير، الذي ينتزع لقب الذكي الجديد، مهنة المزاودة على وجع الناس والتبخيس من قيمتهم وعدم إنزالهم منازلهم التي يستحقونها ويمارس التعالي عليهم، ومع الوقت يجد له من المبررين من يمتدح الوقاحة التي تعتمر سلوكه حين ينصب نفسه وصيًّا على فكر الناس وآمرًا ناهيًا بشأن سلوكهم حتى لو كانوا يصرخون من الألم.
فهو يقدم نفسه من خلاله تابوهات يستطيع منها النفاذ نحو القبول العام: "لسانه نظيف، لا يشتم، لا يرد على الشعبويين.. إلخ"، وهذا جيد لو كان أصيلًا، لكنه يتراجع للوراء حينما يقف أمام استحقاقات كبيرة تخص مجتمعه، لأن مواهبه الكامنة تعجز عن النهوض به، فيترك لغيره مهمة التصدي لتلك الاستحقاقات ويبادر للترفع تحت حجج مثل: ما هكذا تورد الإبل.
تواجه الإنسان الموهوب عوائق لا يتمكن من تخطيها مهما حاول، لأنها تخالف ما جبل عليه وتطبع به، وسيصبح الأمر معاكسًا بالنسبة لشبيه الذكي ومحدود الموهبة، فالأمر حينها لا يتعلق ببذل جهد صادق بل بابتذال الصدق والحقيقة
يجيد أيضًا ذلك الموهوب "الجديد" القفز وحرف المواضيع عن مساراتها عندما يبتدره ناقد ما بنقاش، وتختفي تابوهاته التقليدية ليظهر مكانها مجرد شخص فاجر.
هؤلاء عبارة عن نماذج تطمح لأن تحقق شيئًا مهمًا ولكنها عاجزة، إلا أنّ عجزها لا يمنعها من تدمير سياقات حقيقية لأشخاص موهوبين ومجتهدين، لذلك يبدؤون بالردح بمجرد أن تنتبه لسلوكهم أو تشير إليه.
شاركت أحدهم البارحة فيديو مؤلمًا يناشد فيه أحد العاملين في الحقل الإعلامي في مدينة إدلب الناس بمساعدة مرضى السرطان في الداخل السوري، الذي لا يصلهم عون مادي أو معنوي ولا تفتح في وجوههم طاقات الأمل لتلقي العلاج في دول الجوار.
وبدلًا من الالتفات للموضوع وإشباعه نقاشًا بغية الوصول لنتائج حتى لو كانت ضعيفة، بدأ الأذكياء الجدد ومحدودي المواهب بالتهجم على صاحب الفيديو وإطلاق ردحياتهم، واعتبار الأمر غير أخلاقي لخروجه عن برتوكولات الحكمة في المناشدات كما يرون الأمر وفقًا لقواعدهم الشخصية.
ولأجل الصدفة فقط، كان قد سبق صدور ذلك الفيديو قبل أيام، تسريب فيديو جنسي فاضح لفنان سوري يحاكي إحداهن. ثم يبرر الأمر بأن الذكاء الاصطناعي قد ورطه بتلك الفضيحة.
الغريب بالأمر أن الكثير ممن هاجم الناشط الإعلامي مترصدًا كلماته الغاضبة كان قد كرّس مواهبه وذكاءه لإنصاف الفنان المفضوح، بدعوى الحفاظ على الحريات الشخصية.
بطبيعة الحال نحن أمام نوع من الذكاء الجديد، ذكاء لا ترفده دراسة ولا تدعمه موهبة وليس مؤصلًا، ذكاء لا يحتاج إلى جهد.