دائمًا ما يحضر شهر رمضان المبارك مقترنًا بالعديد من المظاهر الخاصة به وحده، وعبر التاريخ العربي والإسلامي طالما وُجدَ أشخاص اهتموا وعنوا برصد هذه المظاهر وتأريخها، وهؤلاء كانوا جميعًا كتاب وأدباء وشعراء أحبوا روحانيات هذا الشهر، فكتبوا وسطروا كتبًا عنه، ورصدوا فيها مظاهره المختلفة، إما بطريقة التأريخ الصريح عبر جمع المعلومات من كتب التاريخ، أو بطريقة كتابة السير الذاتية التي دوّنوا فيها أحوالهم ويومياتهم في هذا الشهر.
ويُمكن اعتبار أحمد الصاوي واحدًا من هؤلاء الذين سجّلوا ورصدوا مظاهر هذا الشهر بالتأريخ الصريح، ففي كتابه "رمضان زمان" يَقوم الصاوي بتسجيل مظاهر شهر رمضان في محورين اثنين؛ المحور الأول الذي يتحدّث فيه عن المظاهر الرمضانية الضاربة بجذورها في العالم العربي، والمحور الثاني الذي يذكر فيه كتابات الرحالة عن شهر رمضان في البلاد التي مروا بها.
يقول الكاتب أحمد الصاوي: "من الملفت للنظر أن دروس رمضان بجامع دمشق كانت تستوعب أيضًا عددًا لا بأس به من السيدات اللاتي جلسنَ للتدريس وأجزن رجالًا كان من بينهم ابن بطوطة"
ففي المحور الأوّل يتدرّج الصاوي في رصد المظاهر الرمضانية السائدة في أرجاء العالم العربي والإسلامي، والتي تبدأ مع عادة تحرّي الهلال ومن الطرائف والنوادر الذي يذكرها في باب هذه العادة، قصة رجل أطربه الثناء لادعائه رؤية الهلال، حتى وصل به الأمر إلى ادعاء رؤية هلال ثانٍ، ويُورد الصاوي عن ذلك: "وحدث أن اجتمع الناس لرؤية هلال رمضان فكانوا يحدقون في الأفق ولا يرون شيئًا، فصاح رجل من بينهم: لقد رأيته، فاستعجبوا من قوة إبصاره وقالوا: كيف أمكنك أن تراه دوننا؟! فطرب الرجل لهذا الثناء وصاح: وهذا هلال آخر بجواره، فضحك الحضور منه".
أما في محور كتابات الرحالة فيذكر الصاوي في تسجيله لرحلة ابن جبير إلى الحرم المكي عام 578هـ أنّ الأخير لاحظ كيف كانت المشاعل والشموع موضوعة في كلّ ركن من أركان الحرم المكي، حتى أنّ الحرم كان يظهر وهو في تلك الحالة متلألئ بالنور وساطع بالضياء.
كما ويُسجّل الصاوي -كذلك- بعضًا من تفصيلات رحلة ابن بطوطة إلى دمشق في شهر رمضان، ويذكر أنّ ابن بطوطة عند إقامته في دمشق عام 726هـ كان يحضر دروس الفقه والحديث التي كانت تُنظّم في الجامع الأموي ويحضرها أعداد غفيرة من الفقهاء وطلاب العلم، ويؤكّد الصاوي أنّ سيدات دمشق كنّ جزءًا لا يتجزّأ من ذلك المشهد، ويذكر عن ذلك: "من الملفت للنظر أن دروس رمضان بجامع دمشق كانت تستوعب أيضًا عددًا لا بأس به من السيدات اللاتي جلسنَ للتدريس وأجزن رجالًا كان من بينهم ابن بطوطة".
وإنّ مصطفى عبد الرحمن سار على منوال أحمد الصاوي، فرصد في كتابه "رمضانيات" العديد من المظاهر الرمضانية، وقام يتناولها وتفصيلها كما وردت في العديد من كتب التاريخ واللغة والتراث، ففي فصل "فانوس رمضان" يذكر الصاوي بأنّ المصريين عرفوا فانوس رمضان في الخامس من رمضان عام 358هـ، وهو اليوم الذي دخل فيه المعز لدين الله الفاطمي القاهرة، وكان قدومه سببًا في خروج الأهالي حاملين المشاعل والفوانيس ومرددين هتافات للترحيب به.
ويذكر بأنّ استخدام فانوس رمضان في مصر شهد تحولات عديدة، فبعد أن كان يتم استخدامه من أجل الإضاءة، استُحدِثت له -في العهد الفاطمي- بدعة جديدة، حيثُ صار الأطفال يقومون بحمله ويطوفون به الشوارع والأزقة في رمضان بعد الإفطار، يُطالبون بالهدايا والحلوى التي ابتدعها الفاطميون، وهم الذين جعلوا من شهر رمضان موسمًا للبذل، وابتدعوا فيه العديد من ألوان التحبّب إلى الناس، بغرض استمالتهم إلى مذهبهم الجديد.
ويُضيف بأنّ هذه البدعة التي ابتدعها الأطفال في عهد الفاطميين في مصر أصبحت عادة لديهم، وأصبحت لعبتهم المحببة في رمضان، فهم يتحينون ساعة ما بعد الإفطار، يحملون فوانيسهم فيه، ويطوفون الأحياء، مهللين مكبرين ومغنين: "أحوي أحوي إياها.. بنت السلطان إياها.. لابسة قفطان إياها.. بجلاببه إياها.. ياللا نجيب له إياها"، فهذه الأغنية تطوّرت كلماتها مع الزمن وأصبحت أشهر أغاني رمضان (أغنية وحوي يا وحوي)، وبقيت تُشير في معانيها إلى أمنية الطفل في أن يحوي عنده بنت السلطان بما لديها من ملابس فاخرة وكنوز.
ويذكر عبد الرحمن المزيد من تفصيلات الأغنية السابقة، ففي فصل "الأغنية الرمضانية" يوضّح بأنّ هناك اختلاف في نسب أصلها، فالبعض ينسبها إلى العصر الفاطمي، والبعض الآخر يرجعها إلى عصر الفراعنة، لأن كلمة "إيوحة" مأخوذة من اسم القمر "إيوح" عند الفراعنة.
استخدام فانوس رمضان في مصر شهد تحولات عديدة، فبعد أن كان يتم استخدامه من أجل الإضاءة، استُحدِثت له -في العهد الفاطمي- بدعة جديدة، حيثُ صار الأطفال يقومون بحمله ويطوفون به الشوارع والأزقة في رمضان بعد الإفطار، يُطالبون بالهدايا والحلوى
وإذا كان أحمد الصاوي ومصطفى عبد الرحمن سجّلوا ورصدوا المظاهر الرمضانية بالتأريخ الصريح، فإنّ نعمات أحمد فؤاد قامت برصد وتسجيل هذه المظاهر في صيغة أقرب إلى السيرة الذاتية، ففي كتابها "القاهرة في حياتي" أفردت فؤاد فصلًا خاصًا ومطولًا للحديث عن مظاهر شهر رمضان كما شهدتها في القاهرة، وتحدّثت في فصلها عن المسحراتية في رمضان فقالت عنهم "في ليالي رمضان يباشر نفرٌ من الرجال عملهم الموسمي أي تذكير الأهالي، وما هم ناسون بالسحور، فالمسحراتي يطوف بيده طبلة يدق عليها أمام كل منزل دقة تقليدية معينة".
كما وذكرت نعمات العديد من حكاياتهم وقصصهم مع نساء الأحياء الذين كانوا يُمارسون فيها عملهم، فأوردت أنّ النساء من طبقات معينة كنّ يُغدقنَ عليهم ببعض أشكال العطايا طمعًا بالظفر بالدعاء أو الفاتحة أو رغبة بسماع قصة قصيرة، وحدّثت عن ذلك: "يُحكى أن نساء الطبقة المتوسطة أي بنت البلد، كانت النساء يعمدن إلى وضع قطعة فضية من النقود في ورقة تلقي بها إحداهنّ من النافذة إلى المسحراتي، ولما كان الوقت ليلًا، والمسحراتي بالطبع لم يوهب عيون زرقاء اليمامة أو ليس صقرًا حاد البصر، فإن السيدة تشعل الورقة ليرى المسحراتي مكان سقوطها فيستدل عليها، وينقض عليها ويفضها ويأخذ القطعة الفضية يدسها في جيبه ويرفع صوته بقراءة الفاتحة لصاحبتها. وقد يكون منشرحا فيروي قصة قصيرة تمتع النساء".
وإذا كان أصحاب الكتب الثلاثة السابقة قد ركزوا على مصر والقاهرة في سرد المظاهر الرمضانية وتسجيلها، فإنّ التاريخ العربي والإسلامي مليء بأصناف الكتب التاريخية والتراثية التي قام أصحابها برصد المظاهر الرمضانية في العديد من البلاد العربية والإسلامية، بالتأريخ حينًا، وبالرواية اليومية أحايين أخرى، ولسانُ حالهم ينطقُ بفضل هذا الشهر وخصوصيته.