هناك ملاحظة أوردها المفكّر العربي عزمي بشارة في إحدى محاضراته حول ثورات الربيع العربي، ذكر فيها تنبّهه إلى مسألة إهمال الباحثين العرب لمسألة الكرامة الإنسانية كعامل بارز من عوامل تفجّر تلك الثورات، وأكّد على ضرورة قيام الباحثين العرب بإفراد دراسات خاصة بالبحث في هذا العامل، والتعمّق في دوره المحوري والمهم في تفجّر ثورات الربيع.
رواية "الفئران" واحدة من الأعمال الأدبية التي تنبهت لأهمية عامل الكرامة الإنسانية في قيام ثورات الشعوب
ويُمكن اعتبار حميد العقابي (1956 - 2017)، الشاعر والروائي العراقي، واحدًا ممن تنبهوا لأهمية عامل الكرامة الإنسانية في قيام ثورات الشعوب، ولم يكن تنبهه لهذا العامل عبر دراسة بحثية، بل كان التفاته إليه من خلال رواية أدبية جَعَلت منه موضوعها وثيمتها الرئيسة.
فرواية الفئران التي آلّفها العقابي وصدرت عام 2013، هي رواية من أدب السجون، وتأتي لُتسلّط الضوء على مسألة الكرامة الإنسانية، وسعي الأنظمة الشمولية الاستبدادية الدائم من أجل سحقها واضطهادها.
تدور أحداث الرواية على لسان سجين لا نَعرف له اسمًا سوى ذلك الاسم الرمزي الذي أعطاه إياه سجانه وهو "واوي"، وتجري في فترة ما بعد انتهاء الحرب في إحدى بلدان العالم الثالث (في ذلك إشارة ضمنية إلى العراق بعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية)، ممن يحكمها نظام شمولي استبدادي، يحصي على الناس حركاتهم وسكناتهم، ويُطالبهم بعبادة القائد والتسبيح بحمده.
يوضّح الراوي طبيعة هذا النظام الشمولي الاستبدادي، فهو يحكم البلاد منذ أكثر من عشرين عامًا، وقد خاض حربًا ضدّ العدو، انتهت بتنازله له عن أكثر من عشرين كيلومترًا على طول الحدود الدولية، ومنذ انتهاء الحرب وهو يستخدم سياسة إلهائية بقصد دفع الناس عن التفكير بمعارضته، وهذه السياسة تتضمن: زيادة الرواتب، توزيع نشرات يومية على الناس مجانًا تحتوي قصص مسلية، ونكات جنسية، وطرائف، وكلمات متقاطعة، وأخبار كاذبة وغيرها.
أما قائد هذا النظام الشمولي فيَحكم البلاد بقبضة من حديد، ويتحّكم بكلّ شاردة وواردة فيها، حتى تاريخها الذي أعاد كتابته في كتاب بعنوان "إعادة كتابة التاريخ"، طبع منه مليار نسخة، تمّ تخزين أغلبها في مخازن تحت الأرض من أجل الأجيال القادمة، وتم توزيع نُسخ منه على كل مواطن ومواطنة، وفُرض في المناهج التعليمية والدراسات العليا، والبحوث العلمية، وفُرض -أيضًا- على أئمة المساجد من كافة الطوائف تلاوة مقاطع منه في خطبة الجمعة.
يبدأ الراوي بسرد ظروف اعتقاله مع زملائه الآخرين، ويوضّح بأنّه تمّ التقاطهم من أماكن العمل والسوق، وتمّ وضعهم في سيارة اقتادتهم إلى السجن، ومرّت من خلال بوابات إلكترونية، ويقول: "على بوابة السجن، من يُنادى على اسمه كان يتم حمله وإلقائه ككيس قمامة فتتلقّفه عصي وهراوات وأخامص بنادق".
ويوضّح بأنّ جنرالًا عسكريًا كان في استقبالهم بعد ولوجهم من بوابة السجن، وأخبرهم أنّ سبب الاعتقال هو اختيارهم لمهمة شريفة، وهي أن يكونوا فئران تجارب لاختبار قدرتهم على تحمّل الإذلال والمهانة، ومما تضمنته خطبته لهم: "ولحسن حظكم فقد وقعت عليكم القرعة لتجري عليكم تجارب علمية لمعرفة طاقة البشر القصوى على تحمّل المهانة".
يُحدّث الراوي عن الكيفيات التي قام عساكر السجن باتباعها من أجل تدريبهم على تحمّل المهانة لكرامتهم الإنسانية، ويُورد بأنّه تمّ إعادة تسميتهم بأسماء حيوانات مثل: حمار خروف عجل، كر، ذيب، واوي (اسم الراوي)، وكانت تتمّ معاملتهم كالفئران، فيجدون يوميًا قطعة جبن صغيرة ملفوفة بقطعة خبز تحت مخدة كلّ واحد منهم، أما عن وضع الاستعداد (استا.. عد!) فقد تمّ تدريبهم على أدائه بطريقة حيوانية يرفعون فيها رؤوسهم إلى أعلى ويمطون أعناقهم بأقصى ما يستطيعون ويرفعون سيقانهم اليمنى إلى أعلى -في وضع كلب يتبوّل- ويطلقون صوت نباح.
اليوم الذي تتكشّف فيه للإنسان حقيقة عبوديته المختارة هو نفسه اليوم الذي يخرقها فيه ويخرج مستعيدًا لإحساسه بكرامته الإنسانية
يورد الراوي بأنّ أي محاولة تمردية كان يُحاول عبرها السجناء استعادة إحساسهم بكرامتهم الإنسانية، كانت تُقابل من قبل السجانين بالقمع والتنكيل، وفي مقابل ذلك فإنّ الخضوع الكامل للأوامر والوصول إلى مرحلة الطاعة المطلقة ونسيان الكرامة بالكامل كان هو الطريق الوحيد للخروج من السجن وتقلّد المناصب العليا في البلد.
يَحكي الراوي عن فشل محاولته في التمرّد هو وبعض زملائه، وأنّه بعد تهديده بالاغتصاب قد عاد واستسلم لكلّ ما يُطلب منه، حتى وصل لمرحلة الاستجابة لطلب الوقوف أمام المرآة والبصق في وجهه الذي يظهر له فيها، ويُخبر في المقاطع الختامية من الرواية بأنّ وصوله إلى مرحلة الطاعة المطلقة لم يساعده على الخروج من السجن، فقد تمّ الحكم عليه بالسجن المؤبّد، وكأن السلطة الحاكمة أعطته اسم الواوي لأنّها تعرف كم يُشبهه في صفات المكر والخداع، وبأنه يُظهر عكس ما يُبطن.
تجيء خاتمة الرواية لتكشف عن زيف جدران السجن الذي يقبَع فيه واوي وتكون مصنوعة من الورق فيخرقها ويخرج إلى الحرية، وتأتي كمن يُخبر عن زيف وهشاشة العبودية المختارة، التي يقبع فيها الإنسان في ظروف الطاعة المطلقة للأنظمة الشمولية أو السلطوية المستبدة ويكون فيها كالحيوان، يفقد شعوره بكرامته.
فذلك اليوم الذي تتكشّف فيه للإنسان حقيقة عبوديته المختارة، هو نفسه اليوم الذي يخرقها فيه ويخرج مستعيدًا لإحساسه بكرامته الإنسانية، وهو ذلك اليوم الكفيل بأن يُطلق فيه إنسان كمحمد عبد الوهاب صرخة تكون بمثابة كوجيتو ثورة كاملة (الثورة السورية) وأحد أهم المفاهيم المؤسسة لها، يعلن فيها ومن خلالها عن حقه باستعادة كرامته الإنسانية المهدورة، مالئًا بصوته أرجاء الكون: "أنا إنسان ماني حيوان، وهالعالم كلّها متلي".