في مزرعة نائية، حيث تتلاشى، إلى حد ما، الحدود بين الإنسان والحيوان، اندلعت ثورة هزت أركان هذا المجتمع الصغير، وقادها ثورٌ غاضب مستنتدًا إلى معاناة رفاقه من الحيوانات المُستغَلة. هل نجحت هذه الثورة في تحقيق العدالة المنشودة؟ أم أنها انتهت إلى فشل ذريع؟
هذه الثورة موضوع نوفيلا "ثورة البهائم" للكاتب الروسي - الأوكراني نيكولاي كوستوماروف (1817 - 1885) الصادرة العام الفائت عن "محترف أوكسجين للنشر"، ترجمة ضيف الله مراد التي تميّزت بالدقة العالية في اختيار المعاني الدقيقة والمعبرة، وكتب لها مقدمة طويلة وشاملة الروائي السوري زياد عبد الله، تحدث فيها عن الخصائص التي تجمع بينها وبين "مزرعة الحيوان" للروائي البريطاني جورج أورويل، وأيضًا وجه الشبه والاختلاف بينهما، بأسلوب بديع.
وما ميز هذه النوفيلا (70 صفحة تقريبًا مع المقدمة) الاستعانة برسومات وضعت داخلها، إذ هناك مقابل كل صفحة رسمة معبرة عنها، والرسومات للفنان للتشكيلي السوري محمود ديوب. كما أن الحكاية تندرج، عمومًا، ضمن تصنيف السرد الخرافي الرمزي الحديث.
سبقت "ثورة البهائم" رواية أورويل "مزرعة الحيوانات"، وتتشابه الروايتان في استخدام الحيوانات كرمز لوصف واقع المجتمعات البشرية وتناقضات الثورات
وكما ذكر زياد عبد الله في تقديمه للكتاب، تُعتبر"ثورة البهائم"، التي نُشرت في عام 1917، من بواكير الحكاية الرمزية وأدب الديستوبيا، ما لم تكن الأولى في هذا السياق، وذلك عدا عن كونها المصدر الرئيسي لرواية جورج أورويل.
وتنتمي رواية كوستوماروف إلى الأعمال الأدبية المجازية والمفصلية التي ترسخ في المخيال الإنساني، مثل "معطف" غوغول، و"مسخ" كافكا، أو نوفيلا ملفيل "بارتلبي النسّاخ"، وتنفتح على شتى أنواع التأويلات والمجازات، ولا ينال منها الزمن.
تبدأ الرواية بانتفاضة الحيوانات ضد مالكها في استعارة رمزية تعكس الصراع الطبقي والاجتماعي، وأطلق شرارتها ثورٌ ضاق ذرعًا بمعاناة الحيوانات واستغلال الإنسان لهم. لكن سرعان ما تتضح هشاشة هذه الثورة، وتفشل في تحقيق أهدافها.
وجاء على لسان الثور، الذي أطلق شرارة ثورة حيوانات المزرعة: "لقد قام الطاغية المتوحش، مستفيدًا من تفوّق عقله على عقلنا، باستعبادنا، نحن ضعفاء العقول، وأوصلنا إلى الدرجة التي فقدنا فيها كرامة الكائنات الحية، فصرنا مثل أدوات العمل غير العاقلة إرضاء لنزواته. الناس يحلبون أمهاتنا وزوجاتنا، ويحرمون صغارنا العجول من الحليب، وما هو الشيء الذي لم يصنعوه من حليب أبقارنا! الحليب هو ملكنا، وليس ملكًا للإنسان! ليحلب هؤلاء الناس زوجاتهم بدلًا من حلب أبقارنا"!
كما أخذ الحصان يصرخ في جموع الخيول حوله: "كفاكم صبرًا على طغيان الإنسان، هذا الشرير أبو الساقين استعبدنا منذ أن كانت البهائم حرة فهو يقودنا إلى الموت على يد أعدائه. إن الخيول التي كانت في سلاح الفرسان تروي قصصًا مروعة عما حدث مع أخواتنا. إن غرة الخيل لتقف من شدة الهلع عندما تستمع إلى قصصهم. لا يسألون الخيل إن كنت تريد أن تذهب إلى الحرب أم لا، ولا يفكرون مطلقًا بأن أخانا ربما لا يريد أن يموت دون أن يعرف السبب الذي سيموت من أجله".
لكن ثورة البهائم هذه فشلت في الواقع بالسيطرة على المزرعة، حيث تبين أن الشخص المسيطر عليها عامل مزرعة عجوز موثوق فيه يُدعى أوميلكو، ويمتلك موهبة فهم حديث الحيوانات، ما مكّنه وبسرعة من التفوق على قادة التمرد - الثور القوي والفحل الجميل - من خلال الاستسلام لمطالبهم المتحمّسة ومنحهم وحريتهم.
لكنه عندما جاء الشتاء ونفد الطعام قام بمعاقبتهما، حيث ذبح الثور وأرسله إلى المسلخ، وقام بإخصاء الحصان. كما طلب منه حينها اتخاذ كل الاحتياطات اللازمة لمنع حدوث الانتفاضة مرة أخرى، وفعل ذلك وعادت الحياة إلى سابق عهدها.
أصداء أورويلية
لا يمكن الحديث عن "ثورة البهائم" دون الإشارة إلى رواية أورويل "مزرعة الحيوان"، التي تحمل تشابهات كثيرة مع رواية كوستوماروف لكونهما تستخدمان الحيوانات كرمز لوصف المجتمعات البشرية، وكشف تناقضات الثورات والأنظمة السياسية. ومع ذلك، هناك فروق جوهرية بين الروايتين، حيث تعكس رواية كوستوماروف اهتمامًا أكبر بالوضع الاجتماعي والاقتصادي في روسيا، بينما تركز رواية أورويل على التحولات السياسية والأيديولوجية.
تعتبر رواية "ثورة البهائم" عملًا أدبيًا خالدًا يطرح تساؤلات جوهرية حول طبيعة الثورات ومآلاتها وكذا مدى نجاحها في تحقيق أهدافها. وهي أيضًا دعوة للتفكير النقدي، والتحلي باليقظة، والتمسك بالقيم الإنسانية.