من أجل هذه اللحظة قضيتُ سنة كاملة بعيدًا عن بيتي أتعلّم الغوص. أيّ غوص يا ترى، هل الغوص في أعماق البحر أم الغوص في أعماق النثر؟
إنّ بعض التراكيب في مستهل النصوص الروائية تستوقف المتلقي مرغمًا ليدقّق في تيمة الرواية، سيما إذا كان الأسلوب مشحونًا بالقلق، ومن خلالها يمكن العثور على هموم الرواة، أو بالأحرى الإيغال في بواطن الشخوص، تتقدم تلك التراكيب قبل سرد الوقائع المصوّرة للأحداث، بوعيٍّ أو من غير وعيٍّ، فارضة نفسها، إيذانًا ببزوغ مشهد ما.
كأن الأصوات المترامية والألوان المتجليّة والشخوص المتحرّكة في الأفضية المتخيّلة، ينكرون أنّ الجري في المكان ليس محاولة لبلوغ مرامي متمنيّة، لكنّهم بعد لأيّ يقررون مع كرور السنين أن الجري دوران في حلقات خاوية
"سنوات الجري في المكان" عنوان متحرك ولم يثبت فيه سوى المكان، رواية للكاتبة نورا ناجي صادرة عن "دار الشروق" في 2022. المُلفت فيها محاولة التجديد، فمن حيث البناء، اتخذت من البداية الألوان كمفاتيح للفصول، استنطقت الأزرق مثلًا كلون للأحلام البعيدة والفرح الناقص، إذ يستطيع المتلقي تكهن ما سيقبل عليه الراوي من سرد. يظهر الميدان والبنك والمقاهي وكليّة الفنون الجميلة أمكنة عامرة بالحياة، إنها الأمكنة التي سوف يحدث عليها الجري تطلّعًا إلى خط الوصول.
وهكذا بعد معاينة كلّ لون، ينعرض المتن مستكملًا الفكرة، ممّا يجعل الحواس تستلذ المعاني بأقصى سرعة، هنا يكمن سر الصنعة؛ فالمتلقي بحاجة إلى تلبس النّص، ولو أسمالًا بالية، باستطاعته حياكتها وترتيبها وهو سائر في القراءة.
ثمّ أن المتناقضات بين الألوان في الأشياء المصنوعة والأشياء المخلوقة أنتجت نصًا موازيًا يضمره الفصل، فحين التلقي تتحرك المخيّلة طارحة السؤال، ما جدوى الألوان المُشتَغل عليها في النّص؟
هذا التقطيع أظنّه لن يشرد القارئ، إنّما يحثّه على مواجهة الجمال ويربطه بحقائق مدفونة في ذاته المبهَمة، أو لنقل يوهّجُ فيه مصابيح حواسه الخافتة.
وكأن الأصوات المترامية والألوان المتجليّة والشخوص المتحرّكة في الأفضية المتخيّلة، ينكرون أنّ الجري في المكان ليس محاولة لبلوغ مرامي متمنيّة، لكنّهم بعد لأيّ يقررون مع كرور السنين أن الجري دوران في حلقات خاوية.
عندما قال الشاعر أحمد شوقي "وللحريّة الحمراء باب/ بكلّ يد مضرّجة يدّق"، رأى الحريّة بفكره الوارف ورسم لها لونها بخياله الجانح، وكأنه أعدّها جنّة، إذْ وضع لها بابًا، أمّا الحريات الأخرى فلا جري وراءها ولا أبواب، بل ألوانها كلّها إلى زوال، وما فائدة الثورة على حريّة زائلة؟
إن الاستغناء عن الأشياء سبيل إلى الرّاحة، لذلك ترى الزاهد في طمأنينة دائمة، إنّه متعلّق بما يشفيه من الداخل، جريه في مكانه عادة لا تؤرقه، وهو يجري بجارحة تتلون كلّ حين، لكنه اختار لها الأبيض لونًا مدى الحياة.
يقول الراوي في هذا الصدد: "اكتشفت أن التخلي عن كل شيء يمنع الخوف من التسلل إلى القلب. هذه الخفة هي أجمل ما في الموت".
ومن اللين أن يستنبط الكاتب من أي نص مقروء أو مسموع أو مرئي ما يزوّق به كتابته، إذا كان يأمن على نفسه فتنة التلاص، وينوّه بإيماءة حرفية تخلّصه من مطبّ النقد اللاذع، لأن الفنون عامة يلقّح بعضها بعضًا، وما أنشئت إلّا لخدمة الإنسان، فالجُمل العفوية الملقاة على صفحات التاريخ في اشتداد البؤس يبقى طنينها كنغمة طائشة في جوق موسيقي منتظم الإيقاع، قال الراوي بعد أن أذاق البطل الموت: "سأخبر الله بكلّ شيء.. أين سمعت هذه الجملة؟".
ومن الكرم أن تستدعي الروائية، الزعيم المصري سعد زغلول إلى مأدبتها، ولعلّ متلقٍ يخاله سعد آخر، وهو بطل قومي تاريخي، تناولت شخصيته العديد من الأفلام والمسلسلات والأعمال الأدبية، طالبَ باستقلال مصر، وهو صاحب مقولة إن اختلاف الرأي لا يفسد للود قضيّة، يجري الراوي على لسان بطلة السنوات: كل الأجساد على الطاولة المعدنية سواء.. كلها لشخص واحد متكرر يزورني أحيانًا في الأحلام. حتى نام عليها سعد ولم يعد أحد يزورني في الحلم غيره.
يتقطّر العنوان مجددًا، مزيلًا الريب عن كلّ إدراك ظل متعلقًا بالذاكرة منذ إقلاع القراءة، وكأن قاموسًا بدا شارحًا لمعنى الجري ومعنى الركض في سياق المبنى: "الركض لا يحدث في المكان".
إنّ السياحة في الأمكنة مكسّبة لمختلف مهارات الحياة، فالمُدرَكات من العلوم تُحصَّل بالتجربة أكثر منها بالدراسة، وما من معركة مع مكان ما إلّا وخلّفت في نهايتها دُربة
وإذا راعينا ميدان التحرير فإننا نجده بطلًا بامتياز، شهد على الامتلاء والفراغ، فيه احتشد الشعب، فيه وقف رجال الأمن تحت الشمس والمطر، في الحر والبرد، في العطلات والأعياد، فيه يتجلى معنى الجري في المكان.
والملاحَظ في الراوية غياب الحوار من البداية، وكأن السُّراد كانوا يجرون للتربع على عرش الراوية، كلّ في زاوية؛ لكي يفهموننا أفكارهم المحمولة على الجد، لكنهم بانوا في حيرة من صياغة الحوار، هل يتكلمون فصاحة وهم على أرض عربية تجيز لهم ذلك؟ ها هم يكسرون حاجز المونولوج فيشرعون في لهجة مصرية توافق طبيعة الشخوص المتعبة من الجري في المكان: "- إزيك يا بابا - زي ما أنا".
وقع هذا، لأن محاولة إقحام أي حوار في المشاهد الأولى قد تنسف النص.
إنّ السياحة في الأمكنة مكسّبة لمختلف مهارات الحياة، فالمُدرَكات من العلوم تُحصَّل بالتجربة أكثر منها بالدراسة، وما من معركة مع مكان ما إلّا وخلّفت في نهايتها دُربة، لذلك لا يؤخذ مفهوم الضياع على قول إبراهيم الكوني "ضيّع نفسك تجدها" بأنّه غواية الذّات في متاهات عقيمة بحثًا عن الحريّة.
هل جاءت الكتابة المسرحية كاستدراك للحوارات المفقودة في ثنايا الرواية أم أنّها جنس أدبي معوّل عليه كعمود لمعمار فنّي أُريد له الحياة بين دفتي السنوات؟ إذ الطبيب ويحيى وعمرو يتناوبون على دفع الأحداث نحو الذروة بتؤدة إلى أن ينفتح السرد على فنيّات كتابة الرواية، شخوصها، رؤيتها من زوايا متعدّدة، هوامش الفضاء الأزرق، ثم تمارين الكتابة.
لا ضير أن نقول إنّ "سنوات الجري في المكان" تُعَد تجربة جميلة ظهر فيها اشتغال خاص من حيث نعومة اللغة المستمدة بريقها من الألوان والفنون والثورة والإخفاق، ثمّ الانتصار.