مِن العادة في الرواية أن نستوعب أمكنة الأحداث خلال السّرد، وقد لا نُشاهد أيّ مكان بعينه في بعض النصوص المتملّصة، حيث الأفضية مفتوحة على الكون لعبقرية السّارد، الذّي يريد أن يلدَ نصّه بلا جنسيّة أو انتماء، إذِ المقدرة على توظيف اللغة الحمّالة للمعنى الجّم، تُصوّرُ أمكنةً وتنقل أفكارًا رحبة، ذلك هو النّص النّهر، أو قل البّحر إن استطعت، لأنّه ينزفك وأنت تلهج وراء معرفة جديدة لم تستقر في كيانك بعد، أمّا في رواية "في الطريق إلى برلين" للروائي والمترجم السوري يوسف وقاص فقد شاهدنا شطرًا مِن الفضاء على ظهر الغلاف، حصلنا على صورة ذهنيّة واضحة. إنّ الطُرقات عمومًا مَمرّ المُشاة، وهُنا يظهر الطريق مُخبّلًا بالأسلاك، بل حتّى إن العنوان طُبِع على سلك شائك أيضًا، رغم توفّر مساحة أسفله كافية، لقد أفهمَتْنا الصورة الظاهريّة مشقّة المَمشى، تقنيّة أفلحَ فيها المُصمّم فبلّغ نسبة عالية مِن الرّسالة.
تُطفئ الحروب أنوار الحياة وتفقدها بريقها، يصبح الإنسان وحشًا كاسرًا يتربصّ بأخيه، يترقّب فرصة تصفيته أو التنكيل به
تُطفئ الحروب أنوار الحياة وتفقدها بريقها، يصبح الإنسان وحشًا كاسرًا يتربصّ بأخيه، يترقّب فرصة تصفيته أو التنكيل به، يسكنه الشّر كنار متأجّجة تلتهم كلّ شيء، العظَمة وجنونها سعيًّا للسيطرة ثمّ السُلطة سرعان ما ينقلبان أمراضًا نفسيّة، بل يصبحان هما الذّات الجديدة، المُنسلخة من وعيها، المستعدّة للفَناء وهي مُصابة، مُصابة بالغُرور والغطرسة والنرجسيّة.. تنعدم قيمة الإنسان كأكرم مخلوق عندما يعتدي على حيّز حريّة الإنسان الآخر. إنّ القتل كمنهج حرب يؤدي إلى طول طريق الحرب وتشعّبها، لا لغة تعلو فوق لغة البؤس والرّصاص، من هنا تلوح طريق الهجرة بحثًا عن الأمان. إنّها عيشة اللاجئين.
أثناء النُزوح إلى حياة أفضل تضيق القبور على الأحياء والأموات، ردمٌ جماعيّ للجُثث المُشوّهة ظاهرة يألفها المقهورون، خيّمٌ على مدّ البصر تعبثُ بها الطبيعة، أوبئة ومجاعة، جهلٌ وجريمة، يتوقّف الزّمن متأملًا آلة الحرب كيف تُفسد ومتى تهدأ، ولأنّ الجيش درجات، فإن الحلقة الأضعف منه مدفوعة للقتال أو الانتحار، بينما يمارس القيّاد حيواتهم كطقوس لا تَمتْ للقتال بصِلة، في الحرب يُحشر البشر والجيّاد والكلاب معًا، الخوف مع ضيق المِراح يفرضان ذلك، تتحول مُدن سوريا إلى دمار فيجد وقّاص فضاءها مادّة خام لمتنه الروائي، ويجعل صوب طريقه الوصول إلى برلين خلاصًا من المعاناة، لكن الضريبة كبيرة أدبًا وانتكاسات، يمزجُ سرده الاستشرافي بما هو حقيقي وما هو متخيّل فيصنع فسيفساء الصراع في الطريق.
إنّ اللجوء هروبًا من الفَناء يجعل الهارب تحت طائلة الاستغلال بلا شفقة، تذوب الهويّة وتتعفّن، مُقت مجانيّ من الهويّات المُستقطِبة، وحتّى اللاجئة، لأنهما يريان تنافسًا على استقرار الحياة بالحقّ والباطل، وتشويهًا لوجه المدينة الأصيل، يحملُ اللاجئ رائحة الموت، يعيش مشمئزًا من نظرات برلين، فلا الرجوع أرحم ولا البقاء أريح، ضياع كلّي لا نهاية له.. ولك أن تتدبّر هذا السطر من الحوار: "أنا اسمي ناديا، وهو ميلاد، نحن لاجئان.. لكن بمقدورنا القيام بأيّ عمل".
لم يكن المسلك سهل لبلوغ الغاية، عندما ينعدم الأمن تنعدم معه كل لذائذ النِّعم، الغابات وإن امتلأت أشجارًا وينابيعَ فإن الوحشة فيها قائمة بالليل والنهار، يُرهَف فيها السّمع لكلّ همسة وحفيف ورذاذ وهرير، الفزع من السكون أشدّ من الحرَكة، يُلعلع الرصاص بين الفينة والأخرى ليكسر حالة الترقب فيأخذ أرواحًا ويترك جُثثًا.. إنّنا نشاهد فيلمًا سينمائيًا بأدق التفاصيل، بل إنّ السينما العربية محتاجة لإعادة النظر في النصوص التي تعتمدها لصناعة الثقافة، نحن ملزمون بتشكيل وعيّ جديد يتماشى مع طريقنا نحو الحضارة؛ حضارة الشعوب الحُرّة التيّ تفكّر بلا قُيود، ولعلّ يوسف أنجز هذه البديعة وهو في أريحية من أمره، فحقّ لها القراءة وإعادة القراءة، يقول الكوني: "التجربة برهنتْ أنّ قيمة الإنسان ليست في ما يُحقّقه من أحلام، ولكن في ما يجترحه من آلام".
عادل بطل النص والمعركة، شرسٌ في تواصله مع العالم، اكتسب عقيدة متطرّفة يوظّفها خلال الطريق، وفي نظره أنّه على هُدى، لأنّه يتطلّع إلى برلين وإلى الفردوس الأعلى، يقتل بنَهم، ارساءً لمفاهيم العدالة التي زعزعها النظام حينما شنّ الحرب على المعارضين، يظن أنّ الربّ والطبيعة في خدمته ما دام يسفك الدماء. تأمّل هُنا "إنّ أسلافنا هم الذين يرسلون لنا المطر من الآبار المحفورة في عمق السماء".
لقد عملتْ وسائط التواصل الاجتماعي على لمّ واستثمار الأفكار الهدّامة ثمّ تبادلها، بعيدًا عن سلطة الرقيب، ممّا سهّل لكثير من التنظيمات الإرهابية على التخندق إلكترونيًا لمدّة تسمح بجمع العُدّة والعتاد، ثمّة يُفاجأ النظام قائلًا: من أين خرج هؤلاء؟ ولا سبيل لترويضهم –عندئذ- إلّا بالعُنف.
يقول ابن خلدون: "الشعوب المقهورة تسوء أخلاقها"، إنّ التضييق على الإنسان في عيشه ومس كرامته بقبح الساسة الذين يروّجون شعارات أحزاب يتبدّل لونها كالحرباء، ممارسات كفيلة بفناء الأخلاق، ثمّ إذا ما اندلعتِ الحرب فلنرَ إذًا قانون الغاب مطبّقٌ بحذافيره.
ذهب وقاص في روايته "في الطريق إلى برلين" إلى تحليل عقيدة المقاتل على أرض سوريا، تارة يتقدّم بالزمن إلى برلين، وتارة يرجع إلى ساحة المعركة بين التلال والأشجار، فيصوّر لنا مشاهد الدّم والتعذيب
ذهب وقاص في روايته إلى تحليل عقيدة المقاتل على أرض سوريا، تارة يتقدّم بالزمن إلى برلين، وتارة يرجع إلى ساحة المعركة بين التلال والأشجار، فيصوّر لنا مشاهد الدّم والتعذيب، فمن خلال المتن نوقن أنّنا أمام حقائق سُجّلت باحتراف، وكأن الرواية مكتوبة بفحم الألغام، ثمّ إنّ في النّص نضوجًا يتمثّل في تخضرم مبدعه الذي عايَش المُدن المكتوب عنها، فأهّلَتْه لتقصّي الشوارد التي تغفلُ عنها عدسات الصحافة او تتجاهلها عمدًا، من هنا نثمّن فائدة الرواية في العصر الحديث، إذْ لم تعد مجردّ وسيلة للتسلية كما يظن البعض ممن يتناولونها اعتباطًا، وإنّما عادت تنافس المؤرخين في تثبيت الوقائع، بلْ تساعدهم على تجويد التدوين في بعض الأحايين.
أين هو الإنسان الذي لم يكن شيئًا مذكورًا؟ ما يكاد يمرّ عقد من الزمن إلّا ويتضعضع مفهوم الإنسان ككائن بشري يُميز الخير من الشر ويسعى لمؤازرة الآخر، برلين المتغنيّة بالإنسانية مثلها مثل أيّ قطعة من أوروبا، لم تستطع تغطية كذبتها أمام اللاجئين من بقاع العالم حيال تفاقم المعاناة، فأنتَ أيها العربي منبوذٌ بهويتك! في مثل هذا النّسق الثقافي المُضمر، أعتقد أن هناك قراءات، تكاسلَ عنها النّقاد لحاجة في أنفسهم، لكن الطريق سيظلّ مفتوحًا ومتى أفاقوا التحقوا.
إنّ الحيوانات أرأف بكثير من إنسان اليوم، المُنسلخ من عقله، فهي في عواطفها صادقة، وفيّة، لِمَ احتقار الكلب وتشبيه الإنسان الخسيس به حالة الغضب؟ ولترافقني في طريقي حتّى نُنهي هذا المقال، ولكن مهلًا، قبل ذلك خذِ الاقتباس: "شعرَ قطيع من الكلاب الضالّة بواجب الدفاع عنها، فحاولوا قطع طريق الجلّاد، مظهرين أنيابهم. لكن الجلّاد هاجمهم، فاغرًا فمه الواسع، فهربت الكلاب بعيدًا، والتجأت خلف الأشجار لتجنّب عضّاته. كانت سليمة مستلقية على الأرض على مسافة قريبة جدًّا، منهَكَة من التعب. اقترب الجلّاد منها، ورفعها بذراعَيْه الضخمَتَيْن، وحملها على كتفه كطريدة صيد".
إنّ المهاجرين بالنيّة، كما يقول يوسف زيدان، قلوبهم مقليّة من أوطانهم وهم فيها، أمّا المهاجرون بأجسامهم فقلوبهم متعلّقة بمن تركوا وراءهم في الوطن من أهلٍ وخلّان، إنّ فرض النّفس في المهجر دون تأشيرة يجعل المرء ذليلًا أينما حلّ، وقد يستخدم العنف ككفاءة يُريها للغير فيُكوّن مناعة زمنيّة، تتخلخل بمدى قدرته على الانصهار في المجتمع المهاجر إليه، يغلبُ الطبع التطبع فتؤثر البيئة على الأدوار المتقمّصة وتزيلها في المواقف الصعبة، أمّا بطل الراوي فقد قال: "لم نكن نعرف طريقة أخرى لتعريف أنفسنا، سوى باللجوء إلى العنف. ثمّ. اثنان ضدّ اثنان. كان يمنحنا تفوقًا واضحًا عليهم، نحن كنّا نريد أن ندافع عن أنفسنا، بينما هم، كانوا مجبرين على أداء واجبهم المهني. مفهومان مختلفان، لكن، تجمعهما نقطة قويّة مشترَكة: البقاء على قيد الحياة".
رواية "في الطريق إلى برلين" صراع مع الأنا والآخر والمكان، وقائع دامية مسرودة بلغة عذبة. نص فيه اشتغال من زوايا مختلفة، شخوص مضطربة وشرسة وهّجت النص فبعثتْ فيه حيوية لا تنضب رجونا من القارئ اكتشافها. لقد قدّم لنا يوسف وقاص صورة متكلّمة ومتكاملة عن الحرب واللاجئين في رواية أصيلة لا أستطيع أن أفيها حقّها بمقال.