08-سبتمبر-2021

من أرشيف صندوق الأمم المتحدة للسكان

لازمني رهاب التصفيح ثمانية عشر عامًا، منذ كنت في التاسعة من عمري وحتى تزوجت وكنت يومها قد بلغت السابعة والعشرين.

كنت صغيرة ألعب تحت شجرة التوت التي كبرت تحتها، وصنعت أراجيحي على أغصانها، واختبأت بين أوراقها من عقاب أمي. في ذلك الضحى وحين كنت أهم بوضع يدي على أرجوحتي، نادتني عمتي: "إجي حاشتي بيك".

سحبتني من يدي وأخذتني إلى مطبخ العائلة، لم يكن مطبخ أمي الخاص لأن أمي لم تملك مطبخًا خاصًا إلا في وقت متأخر من بلوغنا. كانت أمي واقفة تحمل بيدها كيسًا أبيض شفافًا تظهر من خلال نسيجه بعض حبات التمر. ابتسمت لي وقالت: "إجا أقعد عيش بنتي". مطبخنا كان قديمًا، له شباك صغير، أشبه بكوة في الجدار، وبابه مكسور وتنتشر في أرجائه أصناف أطعمة الشتاء في أرجائه في فوضى أليفة: "عولة الكسكسي"، "عولة الفلفل"، "عولة الطماطم".

أجلستني عمتي على طاولة خشب أمام الطباخ الذي يعمل بالغاز، وقالت لي: "اقعدي قدامي وهزي جيبك لحد الركبة". أمي إلى جانبها، لكنها بدت لي بلا حلو ولا سلطة. وجهها قلق ومستكين كما لو أنها اكتشفت للتو أنها ستشيع جثمان ابنتها بعد دقائق.

"علاه يا عمتي جميلة" قلت لها. ردت بنبرة حادة كما لو أنها ستضربني "هز الجيب متاعك حد الركبة" رفعت تنورتي إلى ما فوق ركبتي، وأنا استرق النظر إلى أمي مستنجدة. كنت أؤمن أنني بمنأى عن كل خطر ما دامت أمي إلى جانبي، فهي قادرة على حمايتي من كل أذى. بادرتني أمي قائلة: "جرح خفيف باش تولي أذكى طفلة في المدرسة وباش ما عادش تخافي من الغول". بهذه الكلمات جرى تبرير عملية "التصفيح" لكي أصبح فتاة ذكية ولا تستطيع الغيلان إخافتي بعدها.

كنت طفلة صغيرة لا أفهم الدنيا ومكائدها. وبالطبع لم أفهم ما كانت تكيده لي عمتي.

فتحت عمتي "موس اللام" وبشفرتها الحادة أحدثت أول "شلطة" في جلد ركبتي اليمنى. ألم حاد انتشر من ركبتي إلى أحشائي جاعلًا قلبي يخفق بجنون. مع ذلك لم أبدِ تذمرًا لأن أمي وعدتني بأنني سأصبح قوية وشجاعة. فكيف يمكنني أن أصرخ وأتألم جراء جرح بسيط وقد همست لي منذ قليل بأنني سأصبح قوية ولا أخاف الغول؟!

 بدأ الألم يشتد شيئًا فشيئًا. وفي غمرة انشغالي به رأيت عمتي تمسك حبة التمر وتغمسها بدمي ثم تمدها لي قائلة: كلي. حاولت تحمله مبتسمة، وبنفس الوقت شعرت أنني أُعزي نفسي بسعادة رحيلٍ قريب جدًا لتلك الطفلة الساذجة التي ستصبح قوية ولن تخاف الغول، وأهُنئها بولادة حتمية لامرأة قوية جامحة مثيرة. كنتُ أُطمئن نفسي بالقول: "لن أخاف الغول مجددًا". عند الشلطة الثانية بدأت بصراخ لا شعوري مرة، اثنتين، ثلاثًا، أربعًا.. لم أعد أستطيع التحمل. ناديت أمي ألف مرة "يا ماما باش تقتلني". لم يستطيع كل بكائي وصراخي أن يلين قلب أمي وتنقذني من أنياب عمتي.

لقد خسرتُ الحرب وكذب إحساسي أن أمي ستنقذني من أي شيء. هذه صدمتي الأولى في الحياة لقد كانت أطول وأول تجربة قاسية في حياتي، وتمنيت نفسي خلالها ألا تخاف الغول ثانية، وأنني سأكون امرأة قوية، لكن الإحساس بالخوف لا يتركني، لماذا لا يتركني مثلما تركتني أمي بحثت كثيرًا في نفسي عن إجابة هذا السؤال دون جدوى، لا إجابة، لم أعرف بالضبط هل أنا خائفة أو أنني مرتبكة. جلّ ما كنتُ مقتنعة به أنني بحاجة لمساعدة أمي، وأكثر من ذلك كنت بحاجة إلى أن تصرخ بوجه عمتي كيف تفعلين هذا بابنتي؟

لازمني خلالها خوف كبير، حقيقي وملموس، الخوف ليس من الألم فقط، بل الخوف أن أمي ستترك يدي في أي لحظة من حياتي. ارتبطت في ذهني فكرة أن أمي هي الألم وليس "موس اللام"، أو أنني آكل تمرًا مغموسًا بدمي، وأصبح الأمر كله محكومًا بعلاقة يستحيل فكّ معالمها؛ فكرة الاقتناع بأن أمي ترى ابنتها تتعذب وهي تقف جامدة لا تحرك ساكنًا جعلتني أشعر بوجود علة ما بجسدي. كان أمرًا شديد الصعوبة، والأصعب منه كان القدرة على هضم تلك اللحظة.

سبع شلطات بركبتي اليمنى، وسبع شلطات أخرى بركبتي اليسرى، وكأن جدارًا صغيرًا مِني قد كُسر فوجدتني بأسري جدارًا يستحيل اختراقه. لحظةٌ لم أعد فيها شيئًا، لا طفلةً ولا امرأة.. صرتُ كائنًا لا جنسيًا سيبحث في نفسه من جديد عمن يكونه في الحقيقة. طالما اعتقدت بأنني طفلة صغيرة مُحصنة ومحمية من شرّ كل من حولي طالما أن أمي بجانبي لأكتشف أنني كنت في حرب غير عادلة كنت فيها مقاتلة وحيدة لا أملك فيها سلاحًا واحدًا غير دموعي ووجعي ومناداتي طوال الوقت لأمي، وكأنني في مواجهة جيوش تمتد أساطيلها إلى قرون من الأساطير والعادات والأديان بكتبها السماوية.

كنت وحيدة أمام ثقافة شعب بأسره يقدم تحريم الجنس كمقبلات على طاولات الطعام، ويرضع الخوف من الرجل في حليب الأم، ويورث جينات الطهر وينميها يومًا بعد يوم.

كنت أمام جملة واحدة تقول لي عمتي كريرها مع كل شلطة "أنا حيط وابن الناس خيط"، مع الوقت أصبحت فعلًا حائطًا منيعًا أمام الحياة وحتى أمام أمي. سأحمل معي هذه الجروح السبع والتمرات السبع في قلبي علني يومًا أستطيع أن أسامح أمي لأنها لم تفتكني من أنياب عمتي ووحشيتها.

 

اقرأ/ي أيضًا:

وحدها الطيور من تعلم

جرح الحلاج