"إن من يحيا على محاربة عدّوه، من مصلحته أن يدعه يعيش"
نيتشه
"العاهرات والكتّاب، نحن الذين لا نستحقّ العفو."
سلمان رشدي
في 14 شباط/فبراير 1989، بعد انقضاء بضعة أشهر على صدور رواية سلمان رشدي، "آيات شيطانية"، أعلن التلفزيون الإيراني عن قطع دورة البرامج المقرّرة من أجل بثّ فتوى الإمام آية الله روح الله الخميني، والتي قضى فيها بهدر دم المؤلّف وكل من يشدّ على يده، من ناشرين ومترجمين وسواهم. بحسب الصحفية الأمريكية المخضرمة روبن رايت، فإن الخميني لم يقرأ الكتاب، وذلك بحسب ما أخبرها به ابنه أحمد، الذي التقت به مطلع التسعينات في طهران. صحيحٌ أن السيّد أحمد توفّي عام 1995، وليس له أي حديث معروف عن فتوى أبيه، إلا أنّ رواية رايت يؤكّدها آخرون، منهم أندرو أنتوني، في مقال في الغارديان نشر عام 2009.
تلك الفتوى، كما يقول رشدي نفسه في كتابه السيريّ "جوزيف أنطون" جعلت القمع الرسميّ للكتّاب أمرًا عابرًا للحدود
عموم ما حصل بعد الفتوى بات بحكم المعروف اليوم. فتلك الفتوى، كما يقول رشدي نفسه في كتابه السيريّ "جوزيف أنطون" جعلت القمع الرسميّ للكتّاب أمرًا عابرًا للحدود. يقول رشدي إن بعض الكتّاب قديمًا عاشوا قرب مناطق حدودية تحسبًا للحظة غضب الرقيب، لكن فتوى الخميني جعلت الهرب المكاني ضربًا من العبث، إذ سيدرك القتل الكاتب في أية بقعة وُجد عليها شخصٌ قرّر تنفيذها.
لذا لم يكن ثمة بدّ من الاختباء، واستمر ذلك لنحو عشر سنوات، كسب فيها رشدي كثيرًا من الشهرة، وخسر فيها الكثير: زوجته وابنه، والكثير من الأصدقاء. اعتذر نصف اعتذار، وعبّر بحذر شديد عن شيء من الندم عمّا كتب. لكنه اختبأ وطال اختباؤه، وعاش كالمطارد، حتى نهاية التسعينات. القصة المعروفة. وأثناء تلك الفترة، تفجّرت صنعّة الأعداء، لمختلف اللوازم السياسية والاجتماعية التي تشترط وجودهم.
كثيرون من أجمعوا منذ تلك اللحظة إلى اليوم، من كتّاب وحقوقيين ومؤرخين وصحفيين مطلعين، على أن ما شهده العالم في قضيّة رشدي لم يُعرف له مثيل من قبل. متى حصل أن يكون المفتي هو نفسه رأس الدولة؟ ومتى حصل أن وضع رأس دولة نفسه ودولته في مثل هذا الموقف في ضدّ كاتب فرد؟ صحيح أن الخميني مات بعد فتواه تلك بستة أشهر، إلا أن الفتوى لم تمت بموته، بل صارت وقودًا استخدمته الدولة لتكريس قواعد النظام في فترة شديدة الحرج، وعقب هزيمة سامّة ومكلفة في الحرب الإيرانية العراقية، ومؤشرًا يائسًا، على إصرار إيراني مبكّر لتصدير التطرّف والتهديد بقدرتها على امتلاك قصب السبق في هذا المضمار.
وكثيرون أجمعوا أيضًا في الأيام القليلة الماضية، بعد حادثة الاعتداء على رشدي، على أمرين يبدوان متناقضين. الأول هو أن الاعتداء يستدعي تلقائيًا تلك الفتوى القديمة التي اختفت عمليًا من الخطاب العام في إيران خلال العقدين الماضيين (باستثناء إحياء ذكراها لدى بعض المهووسين في فبراير من كل عام)، والثاني هو التأكيد، لأسباب عديدة، على أنه لا علاقة رسميّة مباشرة لإيران بما حصل، إذ لا مصلحة لها بالمرّة في ذلك. في الوقت ذاته، يزداد المشهد إرباكًا عند مطالعة ما كُتب في الثناء على هادي مطر والتشفّي من سلمان رشدي في الصحافة الإيرانية ووكالات الأنباء الرسمية وشبه الرسمية فيها في اليوم التالي للحادثة، وهو سلوك تزامن مع تصريح الخارجية الإيرانية في اليوم الذي بعده بأن استهداف رشدي ليس أمرًا تتبنّاه الدولة، وأنّ إيران لا تقف وراء محاولة اغتيال الكاتب.
وهذا الادعاء صحيح على الأغلب، وهو ما يفسّر الصدمة الواسعة مما حصل، لاسيما وأن الرجل بدا في مأمن من أي تهديد في السنوات القليلة الماضية، إذ شارك في فعاليات ثقافية وإعلامية غير قليلة في عدة دول حول العالم، وشوهد مرات عديدة يستخدم المواصلات العامّة دون أن يلفت كثير انتباه إلا من بعض المعجبين من محبّي الكتب، وبعض المصوّرين الهواة. تلاشت لعنة الرواية، كما تلاشت لعنة فتوى الخميني، أو كادتا، وهو ما طال تمنّي رشدي له، تمامًا مثلما تمنّته إيران، بل أكثر.
فالرجل، أي رشدي، في نهاية العام 1990، أصدر بيانًا موقعًا باسمه، يعلن فيه ما يمكن اعتباره توبة، يتعهد فيه بأن يطلب من الناشر البريطاني عدم إصدار طبعة جديدة من الكتاب، وأن يوقف أذون ترجمته إلى لغات أخرى. ذلك الموقف ضاعف من أزمة الرجل أمام من دافعوا عنه ووقفوا إلى جانبه، إلا أنه أظهر استعدادًا لخسارة ذلك كله، مقابل استعادة حريّته والعودة لرؤية ابنه وترميم العلاقة مع زوجته. كرّر رشدي الإشارات لرغبته في وضع حدّ لتلك المأساة، وقال غير مرّة إن "آيات شيطانية" بات كتابًا قديمًا، وقصّة وانتهت"، وعبثًا أمل الرجل، بأن ينضب ذلك الغضب، كعادة أي غضب.
حال دون ذلك أمران. المرشد الجديد الذي وجد الفتوى طوق أمان مفيدًا في تلك الفترة الانتقالية من عمر الجمهورية الإسلامية، ووسائل الإعلام. كل ما كان يلزم لاستدامة تلك الأزمة، هو وجود الخطاب الذي يرى فيها فرصة يلزم استغلالها لأقصاها، والصحف وشبكات التلفزة التي حرصت على أن تكون الرسول الأمين لكل تهديدات القتل ودعوات هدر الدم. وقد شكّل ذلك مادة إعلامية لا يمكن مقاومة إغرائها بطبيعة الحال، وبالأخص في الولايات المتحدة. وقد ألمح إلى ذلك مبكرًا الصحفي البريطاني روبرت فيسك، في مقال له في مجلة "لندن ريفيو أوف بوكس" في العدد الصادر في آذار/مارس 1989، أي بعد فتوى الخميني بشهر واحد فقط. تحدّث فيسك في تلك المقالة عن صنعة الأعداء، و"فتاوى الإعدام" الأمريكية. لكنه تحدّث أيضًا عن احتراف الرجل العجوز في إيران كذلك للعبة الشيطنة وصناعة الأعداء، مؤكدًا على أن ذلك لم يكن ليتمّ له لولا شبكات التلفزة والاستفادة من تغطية الإعلام الأمريكي لإيران. أما في الداخل، فلم يكن ثمة صوت يعلو على صوت المرشد الأعلى، وقدرته على خلق العدوّ الذي بدا بحاجة ماسّة إليه حينها.
في ذلك المقال، يختصر فيسك رأيه بفتوى الخميني المرعبة بجملة أثيرة إذ قال: "ذلك الرجل الذي صدم الشرق الأوسط بأسره قبل عقد من الزمن، والذي أرعب زلزاله الإسلامي دولًا عربية وجعل الولايات المتحدة على أعصابها متحفّزة ومرتبكة، قد انحطّ اليوم إلى مرتبة زعيم يلاحق كاتبًا".