13-يونيو-2024
سيكون لصعود اليمين المتطرف في فرنسا تداعيات داخلية وخارجية (AFP)

الانتخابات البرلمانية القادمة ستعيد رسم الخارطة السياسية في فرنسا

من يتصفح موقع صحيفة "ليبيراسيون" اليسارية الفرنسية، سيلفته إعلان اشتراك بالصحيفة في آخر الصفحة يقول: "لمواجهة اليمين المتطرف، اختر ليبيراسيون، الشهر الأول بواحد يورو". 

هذا الإعلان يسلط الضوء على الاستقطاب السياسي الذي تشهده فرنسا في ظل معطيات تتخوف من صعود اليمين المتطرف للسطلة، بعد الخطوة المفاجئة للرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، بحل الجمعية الوطنية (البرلمان)، والدعوة لانتخابات نيابية نهاية الشهر الجاري.

شهدت فرنسا، مساء الأحد، زلزالًا سياسيًا لم تشهده من قبل، حيث تقدم اليمين المتطرف، ممثلًا في حزب التجمع الوطني، بالانتخابات الأوروبية، وتصدر نتائج الانتخابات للمرة الأولى في تاريخه، إذ حصل على 31.37 % من الأصوات وفاز بـ30 مقعدًا، فيما حل حزب النهضة الحاكم (حزب الرئيس ماكرون) في المرتبة الثانية بحصوله على 14.60% من الأصوات و13 مقعدًا، وحل الحزب الاشتراكي ثالثًا بحصوله على 13.83% الأصوات و13 مقعدًا كذلك.

فيما حل حزب فرنسا الأبية اليساري رابعًا بحصوله على 9.89% من الأصوات و9 مقاعد، وكان لافتًا تصدره بالدوائر الانتخابية للفرنسيين المقيمين في دول المغرب العربي، بالمغرب والجزائر وموريتانيا. وبهذا الخصوص، عزت صحيفة "لوموند" هذا التقدم الملفت للحزب اليساري في تلك الدول إلى تأثير الحرب الإسرائيلية المستمرة على غزة منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر الماضي.

أرجع ماكرون تقدم اليمين المتطرف وخسارة حزبه في الانتخابات البرلمانية الأوروبية إلى عدة عوامل. من بينها المشاكل الأمنية المتزايدة في فرنسا، والتراجع في القدرة الشرائية للمواطنين الفرنسيين

وأثار قرار ماكرون مفاجأة لدى عدد من المهتمين بالوضع داخل فرنسا، واصفين القرار بـ"زلزال ضرب الساحة السياسية الفرنسية".

وفي دفاعه عن قراره، شدد الرئيس الفرنسي على أنه لن يستسلم لما وصفه بـ"الأمر الواقع"، وإعطاء مفاتيح السلطة إلى اليمين واليسار المتطرفين، داعيًا كل: "المؤمنين بالديمقراطية وبأسس الجمهورية" إلى الانضمام إلى التكتل الرئاسي (الذي يمثل أحزب تيار الوسط) من أجل الحصول على الأغلبية في الجمعية الوطنية المقبلة، التي ستمكنه من "مواصلة الإصلاحات ومساعدة الفرنسيين" وفق تصريحاته.

وفي محاولته لتقديم قراءة لهزيمة حزبه في الانتخابات البرلمانية الأوروبية والتقدم الكبير لليمين المتطرف، عزا ماكرون ذلك إلى المشاكل التي تعاني منها فرنسا ولم تحل بعد، مثل الوضع الأمني المتراجع في البلاد، وانهيار القدرة الشرائية للمواطن الفرنسي، إضافة إلى المشاكل المتعلقة بالهجرة غير الشرعية.

ولم يفوت الرئيس الفرنسي الفرصة لشن هجوم على اليمين المتطرف واليسار الذي قرر "الالتحاق باليسار المتطرف"، قائلًا: "منذ يوم الأحد الماضي، بدأت الأقنعة تسقط. نحن نشهد معركة بين الذين يعملون من أجل ازدهار أحزابهم والذين ينشطون من أجل ازدهار فرنسا".

وفي خضم هذه التطورات، خرج رئيس الحزب "الجمهوري" الفرنسي، إريك سيوتي، بموقف ستكون له تداعيات على الساحة السياسية الفرنسية، إذ دعا إلى التحالف مع اليمين المتطرف في الانتخابات البرلمانية المسبقة المقررة نهاية الشهر الجاري.

وقال سيوتي، في مقابلة مع قناة "TF1" الفرنسية: "نحن بحاجة إلى التحالف، مع الحفاظ على هويتنا، مع حزب التجمع الوطني ومرشحيه". وعلّل رئيس الحزب الجمهوري ذلك إلى أن اليمين يحتاج إلى هذا التحالف للاحتفاظ بمقاعده في الجمعية الوطنية، حيث يحظى بـ 61 نائبًا.

وأحدث موقف سيوتي زلزالًا وانقسامًا داخل الحزب الديغولي (نسبة للرئيس الفرنسي شارل ديغول)، المعروف تاريخيًا بعدائه لليمين المتطرف. فقد وجه عدد من كوادر الحزب انتقادات لما وصوفه بـ"الانعطافة غير المسبوقة"، واتُهِم سيوتي  بـ"الخيانة والكذب ومراعاة المصلحة الشخصية" من خلال دعوته إلى التحالف في الانتخابات التشريعية القادمة مع اليمين المتطرف.

ولم يتوقف الأمر عند الانتقادات داخل الحزب الجمهوري، بل قرر مسؤولون منتخبون محليون ونحو 10 من أعضاء مجلس الشيوخ ينتمون إلى الحزب مغادرته.

 في حين قال رئيس مجلس الشيوخ جيرار لارشيه: "لن أوافق، بأي حجة كانت، على اتفاق مع التجمع الوطني يخالف مصلحة فرنسا وتاريخنا".

بدوره، اتهم وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانان، العضو السابق في الحزب الجمهوري والذي انضم إلى حزب ماكرون في 2017، سيوتي بأنه بذلك "وقع اتفاقات ميونخ" في إشارة إلى الاتفاقية الموقعة عام 1938 بين فرنسا وألمانيا النازية، متهمًا إياه بأنه يمعن في "تلطيخ شرف العائلة الديغولية".

وسارع رئيس الوزراء الفرنسي السابق إدوارد فيليب، رئيس حزب "الآفاق"، إلى فتح الباب أمام "الجمهوريين الغاضبين" قائلًا إنه: "يرحب بكل من يريد الانضمام من معسكره"، ووصف التحالف بين الحزب الجمهوري والتجمع الوطني بـ"المفزع، والمخالف للطبيعة".

يعكس صعود اليمين المتطرف في فرنسا أزمة عميقة يعاني منها المجتمع الفرنسي، حيث أتاح الفرصة للقوى السياسية التي تعتمد على "الأيديولوجيات الهوياتية" للظهور بقوة

وتصدرت صورة إريك سيوتي، الصفحة الأولى لجريدة "ليبيراسيون"، مع عبارة "العار". وقالت الصحيفة اليسارية في افتتاحيتها: "ميل إريك سيوتي نحو التقارب مع مارين لوبان، في النهاية، ليس مفاجئًا، فهو حامل لأفكار تتقاطع مع اليمين المتطرف، خاصة الخطاب المعادي للأجانب"، وأشارت الصحيفة إلى أن سيوتي تحكمه حسابات سياسية ضيقة، فهو مرعوب من فكرة فقدان مقعده النيابي.   

يشار إلى أن سيوتي وحزبه افتعلوا مؤخرًا مشكلة مع الجزائر، حين نشر الحزب تغريدة على حسابه في منصة "أكس" تعليقًا على تقديم الجزائر لباريس قائمة بها مجموعة من الممتلكات المسلوبة منذ الحقبة الاستعمارية، من أجل استعادتها، بأن على الجزائر استعادة "كل شيء، الجيد والسيئ: المجرمون، المدانون، المهاجرون غير الشرعيين".

وقد أيد سيوتي المنشور، حين كتب: "دعونا نرسل أيضًا إلى الجزائر قائمة المجرمين الذين يجب عليهم إعادتهم إليها"، بحسب تعبيره. وهذا الموقف العنصري إشارة لتقاطع سيوتي في كثير من المواقف مع اليمين المتطرف.

وسارعت زعيمة التجمع الوطني مارين لوبن، إلى الترحيب بما أقدم عليه سيوتي، واصفة إياه بأنه "خيار شجاع".

في الاتجاه الأخر، سعت قوى اليسار إلى تشكيل جبهة عريضة لقطع الطريق على وصول اليمين المتطرف إلى السلطة، وذلك بإعلانها تشكيل "الجبهة الشعبية"، وهم تحالف ضم: الحزب الاشتراكي والشيوعي وفرنسا الآبية، بالإضافة لحزب الخضر.

وكان لافتًا أنّ الأحزاب الأربعة وضعت خلافاتها السياسية والشخصية جانبًا، فبعد ثلاثة أيام من التشاور، اتفق المجتمعون تحت راية "الجبهة الشعبية" على توزيع المقاعد بينهم.

لكن اللافت أنّ هذا التحالف لم يلق هجومًا من اليمين المتطرف، بل من الجهات المرتبطة باللوبي الصهيوني في فرنسا، فسار رئيس الحكومة الفرنسية الحالي، غبريال أتال، إلى وصفه بـ"المثير للاشمئزاز"، مركزًا هجومه على حزب "فرنسا الأبية"، الذي كانت له مواقف بارزة في رفض العدوان الإسرائيلي المستمر على غزة، واتهمه بأنه "معاد للسامية" وبأنه لم يُدن ولا مرة عملية "طوفان الأقصى". وأبدى أتال عتبه على الحزب الاشتراكي، الذي كان ماكرون يطمع في استمالة بعض نوابه لصفوف حزبه.

ولم يتوقف الأمر عند أتال، فقد سارعت المنظمات اليهودية إلى الهجوم على "الجبهة الشعبية"، ووصف رئيس المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا، جوناتان عارفي، الاتفاق بـ"العار"، متهمًا التحالف بأنه "معاداة للسامية".

أما رئيس الصندوق الاجتماعي اليهودي الموحد، أرييل غولدمان، فقد اتهم الاشتراكيين بالتحالف مع "حزب مؤيد لحماس".

فيما اعتبر اتحاد الطلبة اليهود في فرنسا أنّ "الجبهة الشعبية" التي قامت عام 1936 من "أجل محاربة معاداة السامية"، هي غير "الجبهة الشعبية" عام 2024 التي قامت على "تحالف معيب مع الجهات المعادية للسامية".

أما رابطة محاربة العنصرية ومحاربة السامية، فقد اتهمت الحزب الاشتراكي بأنه بتحالفه مع حزب فرنسا الأبية "تناسى تاريخه وثقافته السياسية ومعاركه للدفاع عن الإنسانوية".

لا مجال للشك أنّ الانتخابات البرلمانية القادمة ستعيد رسم الخارطة السياسية في فرنسا، وهو ما سيكون له أثرٌ كبير على وضع المهاجرين بصفة خاصة، وعلى سياسة الدولة الخارجية على الصعيد الأوروبي والدولي.

صحيح أنّ صعود اليمين المتطرف مرتبط بعوامل ذات صلة بالتغيرات على الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي التي تشهدها فرنسا، لكنه تعبير عن أزمة يشهدها المجتمع الذي أعطى فرصة للقوى التي ترتكز مشاريعها السياسية على "الأيديولوجيات الهُوياتية"، والتي تهرب من التحديات التي تواجهها البلاد بتصويب سهامها على المهاجرين واعتبارهم السبب في الأزمة التي تشهدها البلاد.

التحديات والمشاكل أكبر من مقاربتها من هذه الزاوية الضيقة، وكأن ترحيل المهاجرين "العصا السحرية" التي ستكون الحل.

صعود اليمين المتطرف للسلطة سيعني مزيدًا من الشعبوية، وارتفاعًا لمنسوب الخطاب العنصري المعادي للأجانب، وتضييقًا غير مسبوق على الحريات، وتحالفًا مع الدكتاتوريات من وراء البحار.

لذا، على الناخب الفرنسي أن يحدد بوصلته بشكل جيد، وأنّ يكون عقلانيًا في اختياره، وإلا فإن شبح اليمين المتطرف سيأكل الأخضر واليابس.