اعترت تغطية الإعلام الرسمي وشبه الرسمي الفلسطيني الصدمة، إثر حدث العبور في السابع من أكتوبر، حيث تبنت خطاب قريب من خطاب المقاومة حين وصفت الاشتباكات الدائرة في مستوطنات غلاف غزة. لكن في صبيحة اليوم التالي، تلاشى أثر الصدمة وابتعد معها الخطاب القريب، فمع بدء العدوان الإسرائيلي، وتتابع مشاهد حرب الإبادة سرعان ما عادت السردية الإعلامية إلى قواعدها القائمة على الاستجداء والاستكانة الدولية وتقديم الفلسطيني بصفته الدائمة ضحية.
يُفهم من الإيغال في خطاب الضحية تحييد الصور الأخرى للموت الفلسطيني، المتمثلة بالاستشهادي والشهيد، وهي ثلاثية صور الموت الفلسطيني كما يصورها إسماعيل ناشف. لذا يلتزم خطاب "الضحية المثالية" بالمعايير الدولية لهيكلية الضحية التي يضعها القانون الدولي.
سردية الدمار: التغطية
في مقالتها "تغطية فلسطين" تشير الصحفية رولا سرحان إلى التغطية الإعلامية الرسمية وشبه الرسمية للحرب، التي عمدت إلى التغطية بمعنى الإخفاء "إخفاء فلسطين: أرضًا وشعبًا وحكاية"، وليس الكشف والمتابعة إعلاميًا. و"سياسة الإخفاء الإعلامية" هي استراتيجية اعلامية اعتمدتها منظمة التحرير باعتبارها - في ذلك الوقت- الإطار الناظم للسردية الفلسطينية التي بنيت على أسس ثورية تحررية، قبل أن تتحول إلى استقلالية وبناء الدولة.
يُسمي الأكاديمي الفلسطيني عبد الرحيم الشيخ أحد جوانب هذا الإخفاء بـ"كسوف فلسطين"، أي تصدير خطاب الاستقلال على حساب طمس خطاب التحرر.
بين الكسوف والإخفاء، جاء طوفان الأقصى، لتطفو سردية التحرر إلى السطح وتعلو على "سردية الاستقلال". إلا أن انهماك المؤسسة الإعلامية الرسمية وشبه الرسمية في متابعة/تغطية بناء مؤسسات الدولة، شاغلها عن خطاب المقاومة، وانتهى بها المطاف صامتة إثر الصدمة التي منيت بها والعالم. لتتابع وتنقل على استحياء مشاهد الاشتباكات ولقطات العبور.
لقد حررت مشاهد الطوفان صورة الفلسطيني الضحية المستكينة المستغيثة المنثورة على وسائل الإعلام مواقع التواصل الاجتماعي، وحولته إلى مقاوم يمتشق السلاح ويأسر
لقد حررت مشاهد الطوفان صورة الفلسطيني الضحية المستكينة المستغيثة المنثورة على وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، وحولته إلى مقاوم يمتشق السلاح ويأسر. إلا أن التمسك بخطاب الاستقلال حال دون بقاء تلك الصورة في العقلية الإعلامية الرسمية وشبه الرسمية، ومرد ذلك المفارقة بين "ثقافة الشرف والعلف".
السبيل إلى الوطن "الشرف" يستحق التضحية والنضال لاستعادته. بينما من يتبعون "ثقافة العلف" يتعاملون مع التضحيات وفق معادلة حسابية، يركزون على احتساب حجم الدمار وأعداد الشهداء.
تُرى ظاهرة الشرف والعلف في الإيديولوجية الرسمية، التي تحيل الجرائم إلى أوراق سياسية تستخدمها للتفاوض ولكسب الشرعية الدولي تحت شعار "فضح ممارسات الاحتلال" والالتزام بالقوانين الدولية ذاتها التي تكفل حق مقاومة صاحب الأرض. وهنا تغييب الصور الأخرى للموت وقضمها، والإبقاء على الضحية دونما ذكر للشهيد والاستشهادي الذين يشكلان عماد اقتصاد التحرر الوطني، يعكس التزام رسمي في تأصيل صورة الضحية على حساب الصور الأخرى. مما يعني نبذها هيكلة اقتصاد التحرر وآلية عمله والاتساق مع مشروع المؤسسات.
إعلام البنك الدولي: المرحلة الفياضية
في كُراسة صهر الوعي، يتحدث الأسير الشهيد وليد دقة (1961 - 2024) أن كثافة القتل والإجرام الصهيوني في الانتفاضة الثانية، استغلتها المنظومة الاستعمارية لتعلن من خلالها تدشين وعي جديد للفلسطيني، وكي السابق، قوامه إعلاء الخلاص الفردي على الجمعي.
تبعًا لجهود وأد الانتفاضة الثانية وضمان عدم تكرارها، جرت عملية مأسسة وصناعة لـ"الفلسطيني الجديد" الذي يمكن وصفه بأنه: "مُحب للسلام وينبذ العنف"، وقد تولى قيادة هذه العملية رجل البنك الدولي في الشرق الأوسط، سلام فياض، الذي يصفه أحد الصحفيين الموالين لسياسته ردًا على سؤال: لماذا ترفضه فصائل العمل السياسي؟ بأنه: "يربط السياسة مع الخدمات ومع البناء وهذا مفهوم جديد في العمل السياسي الفلسطيني"، وهذا القول وإن أراد به صاحبه تجميل فِعله إلا أنه يظهر خطورة ما يفعل.
المفهوم الجديد المُشار إليه، يُعلي قيمة الدولة على حساب التحرر، بخلاف أن الأصل هو التحرر ثم بناء الدولة، وهو ما بُنيت على أساسه منظمة التحرير. التجديد ذاته أقرب إلى العودة إلى الخلف "التخلف"، أي التغاضي عن وجود الاستعمار، والعمل وفق إملاءات المنظومة العسكرية الذراع الاستعماري في الضفة الغربية.
في مشاهد الطوفان، وما يتصل به قبله تمايزت الطبائع البشرية الموجودة في غزة تحت القصف، أو في الضفة الغربية التي تتواجد بين فكي الموت تحت نار المستوطنين المسلحين الطلقاء. فرأينا من هو غير آبه بالموت ويفضل الصمود والموت بحرية على الرحيل وترك الأرض، وآخر يندب حظه بوجوده على هذه البقعة، كلاهما يعبر عن أيديولوجيته ومفهومه للاستعمار، والإعلام في الحالتين له دور في صناعة الحالة وتعزيزها وتكثيف حضورها.
وباعتبار المواطن الفلسطيني مُحور التغطية الإعلامية، تعمد وسائل الإعلام إلى التقاط أصوات دون غيرها، تُغيّب أحدًا وتظهر الآخر الذي يُمَكِّن سرديتها "سردية الدمار". وتغيب الآخر الساعي للحرية الذي يصدح مع خروجه من تحت الركام "فدا المقاومة"، واستحضاره في سياق العلاج النفسي بداعي الصدمة وعدم الوعي وتحليل دوافع الاحتلال دونما التحديق في المقولات تلك.
في "التجربة الفياضيّة" تلاقت تطلعات الحكومة مع رؤية المؤسسات الدولية التي ترفع شعار الديمقراطية وحقوق الإنسان وتنمية المجتمع.. وغيرها من شعارات المنظومة الدولية التي تستبطن الرضا بالواقع، وتدجين الفلسطينيين وتحويلهم إلى أشخاص مغتربين عن واقعهم. فولدت السردية الإعلامية التنموية المنادية بضرورة تحصين المجتمع المدني وتمكين الشباب وتحسين ظروف العمل وغيرها من الحقوق التي تكتسب في الأصل مع دحر الاستعمار. إلا أن الأجندة الدولية ترمي إلى تحويل المجتمع الفلسطيني إلى "مجتمع ما بعد استعماري" في ظل وجود الاستعمار واستمراره. لتحل مفردات التنمية والديمقراطية والمجتمع المدني بدلًا من الحرية والتحرر.
وهي تجربة لها جذورها الاستعمارية ففي البث الافتتاحي لإذاعة فلسطين، في آذار/مارس 1936، قال المندوب السامي البريطاني واكهوب محذرًا: "لن تهتم إذاعة فلسطين بالسياسة، هدفها الرئيسي نشر المعرفة والثقافة، كما أستطيع طمأنتكم أن الدعاوي الدينية لن يتم تجاهلها أيضًا".
الاستثمار في الإعلام: سردية النقد والإحصاء
ضمن استراتيجية "البناء" وخطة الدولة، عملت الحكومة الفلسطينية إلى فتح ماراثون "اقتصاد الإعلام" عبر تصدير الإعلام كقطاع استثماري - تجاري، وواجهة إعلامية للنشاط الرأسمالي الاقتصادي الذي بدأ مع اتفاقية باريس الملحق الاقتصادي لاتفاقية أوسلو، وتكثف مع المرحلة الفياضية.
وقد تسابق المستثمرون لفتح الإذاعات والصحف وغيرها من أشكال وسائل الإعلام وإحالتها إلى منابر يروجون من خلالها إلى استثماراتهم الأخرى. إلا أنه تدريجيًا ضمن النزعة التنافسية، باستقطاب الصحفيين الذين أسهموا في بناء سردية إعلامية جديدة تولدت من رحم السردية الرسمية، لكنها تنكرت لمولدها.. كيف ذلك؟
تسببت السردية التجارية في نقد ومناوشات إعلامية مع المؤسسة الرسمية على أسس اقتصادية واجتماعية، مع تغييب الأسس السياسية
ذهبت السردية التجارية إلى النقد وبدء المناوشات الإعلامية مع المؤسسة الرسمية، وإن تقاطعت مع مشروعها السياسي، إلا أنها لم تتوافق على الرؤية الاقتصادية والاجتماعية مما ولّد جوًا من المجاذبة الإعلامية على أسس اقتصادية اجتماعية، في تغييب واضح أسس السياسية المتفق عليها سلفًا.
حالة النقد والتجاذب الإعلامي ولّدت جوًا من المشاحنة مع الإطار الرسمي، وخلقت جوًا نقديًا أسهم في ولوج بعض الأصوات التي تنادي بالتحرر التام، عبر الطريق الواضح، أي النهج المسلح نهجًا للتحرر، لتستخدمها تلك المؤسسات ورقةً للضغط على المؤسسة الرسمية.
وفجأة انقطع نفَس تلك المؤسسات ودخلت في حالة الصدمة، وذلك حين حدث طوفان الاقصى، ثم سكت صوتها النقدي في اليوم التالي للسابع من أكتوبر وصارت بوقًا رديفًا للإعلام الرسمي، بذريعة التكاتف لأننا في نفس الخندق مع المؤسسة الرسمية، فهما يتفقان على أرضية سياسية.
تحولت تلك المؤسسات الإعلامية إلى أشبه بمراكز الإحصاء والتوثيق في زمن الحرب، وتنكرت لدورها الثوري التي سلكته في القضايا الاجتماعية، مثل مسيرات الضمان الاجتماعي وإضراب المعلمين.. وغيرها من القضايا الاجتماعية.
فتحت وسائل الإعلام أبوابها في البرامج الصباحية للمؤسسة الرسمية والمؤسسات الحقوقية، لتدعيم خطابها الرامي إلى "ضرورة محاسبة الاحتلال" عبر جمع إحصائيات للدمار الإسرائيلي. على أهمية التوثيق إلا أنه يستخدم في سياق الاستجداء الدولي.
تعتقد تلك المؤسسات آنفة الذكر، من خلال سردياتها إلى أنها تؤدي دورها الوطني وفق إمكاناتها، وتتجنب الاحتفاء العلني بالمقاومة لأن ذلك يجلب الخراب للمؤسسة ويعرضها للمساءلة القانونية الاستعمارية بذريعة التحريض. وتسقط تلك الذريعة عندما تصطدم برغبة المشروع الاستعماري بالإبادة الجماعية علنًا، يُحتم على تلك المؤسسات مراجعة تخلفها عن المعركة الحالية، على الأقل الإعلامية.
مما لا يختلف حوله المتابع الجاد بأن هذه المؤسسات في خطابها وسرديتها تضمر نقدًا للمقاومة وإدارتها للحرب، بذريعة عدم الجهوزية، تقول ذلك من باب ضرورة النقد البنّاء، متناسية أن فعلها في خضم المعركة يلعب دورًا هدّامًا، والمريب أيضًا أننا إذا نظرنا إلى خطابها النقدي للمستوى الرسمي وسلوكه وتصرفاته نجده متواطئًا أو ناعمًا أو متواربًا يتيح للمستوى الرسمي حيزًا كي يقدم نفسه يبرر سلوكه.
تتقوقع الأصوات الناقدة حول نفس السردية الموثقة للدمار والجوع، عبر تحميل الاحتلال إغلاق معبر رفح، وهذا وإن كمنت في جوهره بعض الحقيقة إلا أنه مخادع.
لم يعد يخفى على أحد أن إغلاق المعبر يتسبب به النظام المصري، وأنه يقوم بفتحه لخروج الغزيين الذي يدفعون أموالًا طائلة لشخص يُدعى إبراهيم العرجاني، المُقرب من النظام، وهنا نجد أيضًا عوار هذا الإعلام وعدم مصداقيته، وأن له خطًا سياسيًا مواربًا لا يُجيد إلا دور الضحية في تقديمها للعالم، والانحياز للمستويات الرسمية، والشجاعة في نقد المقاومة وحالة الرفض للاحتلال.
وقد نفسر حجب/ تغطية/ إخفاء صوت المقاومة، سواء كناطق عسكري أو مجتمع حاضن، يمكننا فهمه درءاً لغضب الممول الذي يمد تلك الوسائل بالمال لاستمرار وجودها، إلى جانب تعارض المقاومة كفكر وممارسة مع استراتيجية الداعمين والقائمين على تلك المؤسسات.
كما أن الإعلام الاستثماري يرى في المقاومة عائقًا أمام التطور "الاقتصاد الوطني" وتطور الاستثمار. وهو ما سمّاه المفكر مهدي عامل "البرجوازية المحلية" التي ترى في المستعمر شريكًا اقتصاديًا وفرصةً لتبادل الخبرات المالية معه، وهذا ما يفسر استمرار العلاقات الاقتصادية بين تلك الطبقة والكيان الصهيوني برغم حرب الإبادة.
تغض سرديات "الدماء والإحصاء" التي يتبعها الإعلام الرسمي وشبه الرسمي الطرف عن مقولة كتبتها إحدى الغزيات: "عزاؤنا أن مقاومتنا وحدها تلتقط هذه الأصوات والصور، وتحولها إلى قداحة تحرق بها جرافتهم وترفع العلم".
ويتناسى القائمون على المؤسسات الإعلامية وصحفييها أن الدور الأساسي للإعلام الفلسطيني هو تعبوي ثوري، وليس تنمويًا تثقيفيًا، وإن المهنية والموضوعية تكمن في الحرية والتحرر. وهنا يفهم قول فرانز فانون أن: "الجزائري الذي يأمل أن يحيا في مستوى الثورة، يملك إمكانية الاستماع إلى صوت رسمي هو أصوات المقاتلين".
من نافل القول إن رؤية وسياسة المؤسسات الإعلامية الرسمية والممولة والاستثمارية، لا تتوافق مع رؤية المقاومة الرامية إلى الحرية، المُكلفة - بمنطق الشرف-، وهو ما لا تريده تلك المؤسسات. مما يحتم عليها نبذ العنف، واعتناق السلمية الرسمية الفلسطينية، الرامية إلى الاستقلال وبناء الدولة، وهي مُربحة - بمنطق العلف-.
لذا قد يتراءى للمشاهد أن هناك تناقضًا ومعارضة بين الإعلام الممول والتجاري مع السردية الإعلامية الرسمية، إلا أنهما مع قرع طبول الحرب، يتحدان ضمنيًا ويتفقان على مشاهد واحدة الدمار والإحصاء وتصدير الضحية فقط.