رغم أن الجزائر احتضنت "المهرجان الثقافي الأفريقي" مباشرة بعد استقلالها بستة أعوام في 1968، وصدحت فيه المغنية مريم ماكيبا بأغنيتها "ماما أفريقيا"، تأكيدًا على البعد الأفريقي في الهوية الجزائرية، إلا أن هذا البعد بقي يتيمًا في الفنون والآداب، إذ تكفي الأصابع العشرة لعد الأعمال الأدبية والفنية الجزائرية التي استثمرت فيه.
في الجزائر، المبدعون بالعربية ظل هواهم مشرقيًا والمبدعون بالفرنسية ظل هواهم متوسطيًا
المبدعون بالعربية ظل هواهم مشرقيًا والمبدعون بالفرنسية ظل هواهم متوسطيًا، باستثناء حالات قليلة، في المقابل نجد نخبة واسعة من العرب والأوروبيين المهتمين بالجزائر سياحة وتراثًا وفنونًا، يتجهون إلى جنوبها الأفريقي ويزهدون في شمالها حيث البحر والبشرة البيضاء.
اقرأ/ي أيضًا: تونس.. مصادرة موسيقى الشارع
في ظل هذا الواقع المحتاج إلى انتباهة واعية تفكك خلفياته، التقى الكاتب محمد بن ديدة والمخرج شوقي بوزيد على عمل مسرحي أفريقي صرف روحًا وخطابًا ومخيالًا وأحلامًا وأوجاعًا ورموزًا، أنتجه مسرح سيراط بومدين في مدينة سعيدة، 450 كيلومترًا غربًا، وحمل عنوان "موسوساراما" الفتاة الأفريقية الجميلة التي لا تظهر على مدار العرض ولا يُذكر اسمُها فيه إلا مرة واحدة، دلالة على ما تعانيه المرأة الأفريقية من تهميش.
موسوساراما هي شقيقة نيغرو (هشام قرقاح) الرجل الذي رغب في تغيير حياته بالخضوع للرجل الأبيض الذي جاء للاستثمار في التنقيب عن المعادن الثمينة، وذهب إلى حد تغيير وجهه الأسمر بوجه أبيض، وهو ما جعله في مهب خصومات كثيرة، منها خصومته مع عاشق الشقيقة، وهو ما يُعطي لعنصر الصراع بعدًا قوميًا، بعد أن كان مقتصرًا على الذوات، إذ تبدأ المسرحية من الصراع وتنتهي إليه.
تدور أحداث "موسوساراما" إما في المنجم حيث تنتهك الأجساد، وإما في السجن حيث تنتهك الأرواح، وسُخّرَتْ لرصد هذه الانتهاكات لغة قوية قلما تجنح إلى الهمس، وإن فعلت فمن باب القبض على لحظة الخوف التي تنتاب المساجين أحيانًا، وهم يعبّرون عن أشواقهم إلى الحرية والانعتاق، فالواحد منهم يحدّث نفسَه وغيرَه ويومَه وغدًه في الوقت ذاته.
اقرأ/ي أيضًا: أفلام ستخفف عنك ألم الانفصال
ينتمي مساجين الرجل الأبيض (محمد مصطفاي)، إلى قبيلتي الهوتو والتوتسي اللتين خاضتا واحدة من أكبر الحروب الإثنية في القرن العشرين، ولم ينتبهوا إلى أن انعتاقهم منه مشروط بانعتاقهم من أحقادهم البينية، ومن الولاء للقبيلة على حساب الولاء للوطن. بالموازاة مع انتباه "نيغرو" في النهاية، إلى أنه لم يكسب وجهًا جديدًا يُؤهله لأن يصبح غربيًا، كما كان يتوهم، بل وجه مشوّه جعله بلا اتجاه، فيشرعَ في العودة إلى الذات في بعدها القاري لا القبلي، ويتزعم ثورة تودي بسلطة القبلية والاحتلال معًا.
الانتماء إلى أفريقيا ليس بشرةً سمراءَ، بل روح ومخيال عجنتهما الأرض
لم يقع المخرج في النظرة النمطية بتلوين وجوه ممثليه حتى يبدوا أفارقة، بل استعان في تكريس ذاك البعد باللباس والموسيقى اللذين تحالفا في الدلالة على الإحساس بالعبودية والقهر والتوق إلى مقام الإنسان، بعد أن ملوا من وصف الرجل الأبيض لهم بكونهم قردة القضبان.
يقول الكاتب محمد بن ديدة لـ"الترا صوت" إنه كتب هذا النص انسجامًا مع حلم رافقه منذ طفولته، هو أن يكون ذا بشرة سمراء، ولعله بهذا من الأفارقة القلائل الذين يجدون استعدادًا لأن يتخلوا عن بشرتهم البيضاء، ثم يستدرك: "هذا لا يعني أن النص لم يكن ثمرة لبحث معمق في الخزانات والذاكرات والتواريخ والجغرافيات الأفريقية المختلفة، من أجل تدجيج العرض بالرموز الدالة على ملامح الإنسان والمكان من غير الوقوع في الإقحام".
من جهته يبدي المخرج شوقي بوزيد (1968)، العائد إلى الواجهة المسرحية بعد خمس سنوات من العزلة، حيرته من إدارة الجزائريين ظهورَهم لأفريقيتهم، رغم أن محافظة واحدة من محافظات الجنوب الجزائري تساوي مساحة فرنسا نفسها، وتمنح من الفنون والطقوس والجماليات، ما تعجز عن منحه تجمعات معينة في العالم المعاصر بالنظر إلى كونها حديثة عهد بالتشكل. يقول: "الانتماء إلى أفريقيا ليس بشرةً سمراءَ، بل روح ومخيال عجنتهما الأرض، ولا خير في فن لا يقول روح المكان".
اقرأ/ي أيضًا: