هيّج رحيل الفنان القدير صلاح ابن البادية أحزان الشارع السوداني، فهو قد ارتبط بالذاكرة، والحضور الكثيف في المكتبة الإذاعية والتلفزيونية، حيث رافقت ألحانه أجيالًا عديدة في سكراتهم الطروبة، واحتل عصره بالكامل، إلى يومنا هذا، منفقًا ستين عامًا من العطاء الفني، دون أن ترتخي أوتار مواهبه بإيجاز، أو يعتزل الحياة والعمر يمضي إلى نفاد.
بعد إعلان خبر رحيله، بدأ الناس في بلاد النيلين يستعيدون حقبة ابن البادية، أو ما عرف بالزمن الجميل
أغمض ابن البادية، واسمه الحقيقي صالح الجيلي أبوقرون، أغمض جفونه للمرة الأخيرة نهار الإثنين في العاصمة الأردنية عمان، إثر علة مباغتة لم تمهله طويلًا، وعن عمرٍ ناهز 82 عامًا.
اقرأ/ي أيضًا: سند الشعر السوداني.. في ذكرى صاحب البحر القديم
أيقونة العصر الجميل
بعد إعلان خبر رحيله، بدأ الناس في بلاد النيلين يستعيدون حقبة ابن البادية، أو ما عرف بالزمن الجميل، حيث كان الرجل أيقونة عصره، ومشى في طريق صعب، فهو بالأساس ابن أسرة دينية محافظة، والده الشيخ الجيلي، خليفة مسيد منطقة أبوقرون جنوب الخرطوم، كان بمثابة كهف آمن يأوي اليه الخائفون والممسوسون والمستجيرون من مصائب الدنيا وظلمة المعاصي، إلى جانب خلاوي علوم القرأن، وهى البيئة الدينة الصوفية الذي شب فيها صلاح عن الطوق، وكان صبيًا يافعًا يقود حلقات الذكر ومديح النبي محمد، وأنين الطار، وحفلات الأعراس في الضواحي، وعذابات التشيلو أيضًا، دون أن يشعر بعدم الاتساق، فهو يغني لأكثر من محبوب، بولع العاشق الصوفي المتبتل في محراب الجمال.
صاحب الجرح الأبيض
ولد صلاح الجيلي في العام 1937 بمنطقة ريفية، انتمى إليها روحًا وجسدًا، وكان يزور العاصمة الخرطوم لمامًا، ولذلك انتزع لقبه الذي لازمه طوال حياته من ولعه بالبادية، وكانت انطلاقته الحقيقة بعد خروج الاستعمار الإنجليزي من السودان مباشرة، وقدم عشرات الأعمال الغنائية الخالدة أشهرها: الجرح الأبيض، حسنك أمر، زي القمر، صدفة غريبة، عاوز أكون، سال من شعرها الذهب.. وغيرها من الروائع التي ارتقت بالوجدان السوداني والعربي أيضًا.
وصفه الناقد الفني هيثم كابو بأنه صاحب مسيرة حافلة وممتدة قوامها أكثر من مائة عمل غنائي، غير إسهاماته الفنية الأخرى المتعددة، وعدد كابو لـ"ألترا صوت" أوجه خصوصية ابن البادية الذي عرف بوفائه للتراث والأدب الشعبي والدوبيت، إلى جانب التربية الصوفية، والتشبع بالإرث الديني، والبيئة التي نشأ فيها، و"انعكست أيضًا في المدائح النبوية التي قدمها بصوته الذي يسكن الوجدان ويريح الأذان ويدخل القلب غازيًا مقتحمًا"، فهو على حد وصف كابو "منشد بصوت مغني وتكنيك فنان"، وفي الساحة الفنية مطرب بأخلاق المسيد وزهد الصوفية.
توثيق الرحلة
اهتم صلاح الجيلي أيضًا بالتوثيق للتراث، وقضى نحو أربعين عامًا من عمره في إعداد كتاب خاص بالثقافة الشعبية السودانية بعنوان "الكجبارة والكنجفيرة"، سعى من خلاله لحصر المفردات التي بدأت في الاندثار، وقد سبق معظم الفنانين السودانيين في الثوثيق لرحلته الفنية بكتاب من إعداده سرد فيه تجربته والصعاب التي واجهته والمحطات الفارقة التي مرت به والأحداث التي عاشها، وتلك خطوة متقدمة تنم عن وعي كبير، عطفًا على دأبه لتأسيس مؤسسة ابن البادية التي تعتني بالتراث والثقافية وكافة مناحي الفنون، لكنها لم تر النور، وهو يغرب عنها بالمرة.
اهتم ابن البادية بالتوثيق للتراث، وقضى نحو أربعين عامًا من عمره في إعداد كتاب خاص بالثقافة الشعبية السودانية بعنوان "الكجبارة والكنجفيرة"
اقتحم ابن البادية مجالي المسرح والسينما، وقدّم مع نعمات حماد ومكي سنادة وكمال فضل وأحمد عاطف وعثمان حميدة مسرحية "تور الجر"، إلى جانب مسرحية ريرة الغنائية، التي أخرجها مكي سنادة، ومسرحية لعنة المحلق، وألَّف كذلك مسلسلًا من أحد عشر مشهدًا باسم نور.
بطل رحلة عيون
واحدة من اللحظات الخالد في تجربة ابن البادية عندما استأثر به الروائي العالمي الطيب صالح في ركن إذاعة البي بي سي بلندن، لتسجيل بعض الأغنيات التي ذاع صيتها عربيًا حينذاك، فولج من تلك النافذة مجال السينما، وقدّم فيلم "تاجوج" مع المخرج السوداني الراحل جاد الله جبارة، والنجمة السينمائية ماجدة حمدنا الله، إلى جانب فيلم "رحلة عيون" الشهير، والذي انتقلت أحداثه ما بين ثلاثة مدن، القاهرة وتونس والخرطوم، وقد شارك في بطولته الفنان المصري القدير محمود المليجي وصلاح ابن البادية وسمية الألفي والفاضل سعيد، ونجوى فؤاد، والفنان التونسي لطفي بوشناق، والأجمل في هذا العمل بخلاف حركة التجسير الثقافي أنه عرض مشاهد لمحمية الدندر على الحدود السودانية الأثيوبية إبان مجدها، قبل أن تفر منها الحيوانات والحياة، وقد أدى ابن البادية في هذا الفيلم الذي أثار ضجة وقتها وأخرجه أنور هاشم، دور البطولة المطلقة.
نعي شجرة السيال
نعاه وزير الثقافة والاعلام فيصل محمد صالح بوصفه الفنان الملتزم بمعاني الخير والحب والجمال، وقال فيصل مستذكرًا أخر ظهور لابن البادية: "لقد أكرمه الله وأكرمنا بأن جعله شاهدًا ومغنيًا في يومنا التاريخي المشهود الذي تم فيه التوقيع علی الاتفاق السياسي الذي نقل بلادنا لمرحلة جديدة من تاريخها لترسي قيم الحرية والعدالة والسلام".
وأضاف أن ابن البادية من رحم أسرة صوفية عظيمة: "قدم تجربة عملية عن عظمة الفن كقيمة مضافة لكل القيم الخيرة التي تدعو لها الأديان بلا تعارض أو تزيد، وستبقى أغنياته خالدة في وجداننا تعطر دواخلنا وتروي حنيننا وتهدهد أشواقنا".
اقرأ/ي أيضًا: في وحشة غياب بولا.. مصرع الرجل الممتاز
ظل صلاح ابن البادية طوال عمره وفيًا للفن عمومًا، فهو متبحر في الأشياء بوعي مبكر، يمتلك مواهب متعددة وقدرة على كسر الشخصيات، الفارس، والحبيب، والمادح، والمعالج الروحي، والابن الضال، وصبي الخلوة، والانسان الطيب البسيط، مبتسم على الدوام، حتى أنه كان يريد أن يصبح تاجرًا للعطور، ولعل من كراماته أنه كان يكتب الأشعار ويؤلف أغانيه الخاصة، بما تجود به روحه، وأنه لا يذهب إلى الصيدلية للتداوي إطلاقًا كما قال، يمشي ويأكل بانتظام، فهو مثل شجرة السيال عاش طويلًا لأنه لم يسرف في الحياة.
اقرأ/ي أيضًا: