هل يجب أن نتذكر؟ أم يجب أن ننسى؟ ذلك صراع قديم تتفوّق فيه الذاكرة ظاهريًّا في الكتب والأعمال الفنية، لكنّ النسيان يسجّل انتصارًا ساحقًا لأن بيكاره أوسع مدىً من المساحات التي تتأثر بمن ينتجون ويستهلكون كتبًا وأعمالًا فنية.
في كتابه "دم الأخوين"، يسأل فواز طرابلسي نفسه ويجيبها في الوقت ذاته: "ما الذي يجب أن نتذكره، وما الذي يجب أن ننساه في الحروب الأهلية؟ الجواب بإيجاز: ثمة واجب للذكرى، ولكن ضرورة للنسيان".
يدعو فواز طرابلسي إلى اعتبار الحرب الأهلية في لبنان ماضيًا، دون إعادة تمثيلها باستمرار، ويرى مع إرنست رينان بأن النسيان، مثل الذكريات، مشترك أساسيّ بين الأمم
يدعو طرابلسي إلى اعتبار الحرب الأهلية في لبنان ماضيًا، دون إعادة تمثيلها باستمرار، ويرى مع إرنست رينان بأن النسيان، مثل الذكريات، مشترك أساسيّ بين الأمم.
هل ترتبط الذاكرة، كما نتصوّر، بالحياة حقًا؟ وهل يرتبط النسيان بالموت فعلًا؟ ألا يصح أن نعكس المعادلة ونرى النسيان حياةً والذاكرة موتًا؟ أليس الأكثر دقّة من هذا وذاك أن الحياة والموت ذاكرة ونسيان، يتبادلان المواقع والأدوار، ويتبادلان خلال ذلك معنى الوجود الذي هو في العمق حيرةٌ؟
الإشكال الكبير أننا نعيش في عالم بات تاريخه هو الذي يحدث الآن. وأصبح ماضيه هو ذاك الذي يتحدث عنه الإعلام. فإذا ما تحدث الإعلام عن مرض ساد اليوم يمكننا أن نفكر في أمراض الماضي. وإن اختار تغطية حرب دائرة نبدأ بالتفكير بحروب الماضي مقارنين بينها وبين ما نراه. بهذه الطريقة الإنكارية يتعامل أهل زماننا مع فكرة "الآن". لا وجود في الحسبان لما أو لمن صنع هذه الآن، أو لما أو لمن أوصلنا إلى هذه "الآن".
من أجل هذا تبدو حالات الرجوع الى الماضي مجرد نزعات حنين، تستعيد فنًّا وكتبًا ومجتمعًا، دون أن يحضر ذلك في سياقه الذي يمكن له أن يساعدنا في فهم ما يجري اليوم أمامنا، ومن حولنا، فموضوع الفساد في العالم العربي، على سبيل المثال، موضوع منقطع عن أي سياق تاريخي. فإما يبدو أنه قديم قدم وجود المجتمعات العربية نفسها، أو أنه وُجد هكذا كاملًا أمامنا فرحنا نكمل الحياة وكأننا نعرفه ويعرفنا، وكأنه والحياة صنوان لا يمكن لأحدهما أن يكون دون الآخر.
غياب السياق هو المشكلة. لأن السياق يصنع الفكرة ويجعلها أدنى إلى الفهم. وحين نجد ظاهرة دون سياق منطقي لوجودها، ودون وجود من يبذلون جهدًا لأجل الوصول إلى ذلك السياق، علينا أن نعرف أنه أريد للمسألة أن تكون على هذا النحو. السياق يحتاج إلى من يتذكّر. أي إلى من يعرف. والتذكّر هنا شرٌّ لأنه يتيح تشكيل موقف، ربما يكون قابلًا لأن يتحول إلى رفض، وهنا بالضبط يُصنع النسيان صنعًا. تقوم السلطة بتصميمه بألف شكل وشكل.
لا شكّ أن عالمًا ينسى هو عالم أجمل لأنه جديد، كونه يقطع مع كل مآسيه. لكنه أيضًا في المقابل عالم قابل لإعادة كل أخطاء الماضي، فمن لا يفهمونها محكوم عليهم بتكرارها، ولعلهم يفعلونها بشكل أفظع مما جاءت عليه في نسخها القديمة، لأن أسلافنا لم يمتلكوا القدرات التي تجعل من الجريمة سهلةً وسريعةً كما فعلنا مع السلاح النووي.
لا شكّ أن عالمًا ينسى هو عالم أجمل لأنه جديد، كونه يقطع مع كل مآسيه. لكنه أيضًا في المقابل عالم قابل لإعادة كل أخطاء الماضي، فمن لا يفهمونها محكوم عليهم بتكرارها
كل الأدوات التي نستعملها كي نتذكر مواعيدَنا والتزاماتنا، من ملاحظات الموبايل المكتوبة والصوتية إلى أجندته، والتي نستعملها لتوثيق اللحظات التي نظنها تستحق التذكر، من صور وفيديو؛ كلها تعزز من قوة النسيان، لأنها تجعل من الذاتيّ موضوعيًا. فحيث إن كلًّا منا يحمل ذاكرته الخاصة للحياة التي عاش، والتي شهد أيضًا، مُطوّرًا ذاكرته مع تطور شخصيته، حتى أن الذاكرة لاحقًا لا تصبح صورة طبق الأصل عما حدث، بل تغدو قابلة لأن تتوافق مع تطوراتنا، التي تجعل من الذكريات ذات طابع حزين، إن نحت شخصياتنا في تطورها المنحى الذي يجعلنا حزانى، أو ذات طابع عدمي إن غدونا عدميين، لكنها مع التكنولوجيا تغدو ذاكرةً آليةً، ما يوقف قوة العاطفة المرتبطة بها، ويعزز من قوة النسيان، الذي لا يعود تراجعًا للمعلومات إلى مكان خلفي في الدماغ يمكن استحضارها في ظروف معينة، بل يغدو محوًا كاملًا.
يحتاج عالمنا وأهله ذاكرةً طبيعيةً، وتلك تصلح لتكون الذاكرة الجماعية التي لا تُمحى، حالها حال شاعر الأرجوزة الراكب راحلةً ويبني قصيدته على إيقاع خطاها. الخطواتُ وسيلته ليتذكر ما قال، وهي أيضًا، في مرحلةٍ لاحقةٍ، وسيلتنا نحن من بعده في تذكر كلمات تحولت إيقاعات الخطوات فيها إلى موسيقى شعرية.
ليس السؤال هل نريد عالمًا ينسى أم عالمًا يتذكر، بل كل ما نريده أن يكون كل ذلك، نسيانًا وتذكرًا، طبيعيًّا.