07-أكتوبر-2024
غزة

عامٌ مضى على عار غزة، جرح الإنسانية الذي لن يندمل، في عالم متوحش يؤكد مرارًا أنه بحاجة للمزيد من الرقي للوصول إلى شريعة الغاب، فقد تخطاها بأشواط بعيدة. عامٌ مزج بين التواطؤ والخذلان، بين الدموع والصرخات، على مرأى الجميع، فقد تجاوز هذا العالم مرحلة إنكار ما لا يمكن إنكاره، ووصل إلى اعتياد المشهد كما هو عليه، وسط بلادة مرعبة تحوم حول إنسانيتنا.

86 % من مباني غزة دمّرها الاحتلال، ما يعادل إلقاء 5 قنابل نووية. أكثر من 51 ألف شهيد ومفقود، كل روح من هؤلاء كان لها آمال وآلام، فرح والدا كلّ شهيد كثيرًا حتى بدأ طفلهم بالحبو، سهرا الليالي خوفًا من حمى لازمته فور نبات أسنانه، وبدأت الضحكات مع خطواته الأولى، ومن ثم حزنت الأم كثيرًا بعد أول يوم لطفلها في المدرسة، فهو فراق مؤقت لا تحتمله.

هم ليسوا أرقامًا، هم بشرٌ كانت لهم أحلامهم وخيباتهم، لهم قصص حب، وكفاح طويل من أجل النجاح، كل واحد منهم يملك كينونته الخاصة، فزيدٌ لا يحب الطعام الحار، وحينما كبر لا يستطيع أن يشرب القهوة لو أضيف لها غرام واحد من السكر، على عكس عمرو الذي يحب النسكافيه، والذي يأكل كلّ ما يتوفر أمامه، ويتنمر عليه أصدقاؤه بالبدانة، ويرد عليهم ممازحًا بالتهام وجباتهم أمام أعينهم.

أصداء الأرواح هذه اختفت، ثمة العديد منهم لن يتردد اسمه من أحد أفراد عائلته، لأن جميعهم قضى عليهم جيش الاحتلال، فثمة 902 أسرة تم شطبها من السجل المدني بسبب استشهاد كل أفرادها، لكنهم على الأقل لن يعانوا ما سيعانيه 1364 فلسطينيًا أصبحوا وحيدين بعد استشهاد أفراد أسرتهم بالكامل أو3472 أسرة فلسطينية استشهد أفرادها، ولم يتبقَ منها سوى فردين اثنين، أو حتى 25,973 طفلًا أصبحوا يتيمي الأب أو الأم أو كليهما.

هي إبادة جماعية، شارك بها الكثيرون، صهاينة وغربيون، لكن الأمر الأكثر إيلامًا لأهالي غزة أن الكثير من الشركاء كانوا من أبناء جلدتهم

هي عملية إبادة جماعية، جلّ ضحاياها من النساء والأطفال، ومن أكبر الأخطاء اعتبار من لم تشملهم الأرقام السابقة أناسًا ناجين، فلا يوجد إنسان في غزّة لم يستشهد أحد أفراد أسرته، أو لم يصب بجروح، أو لم يعانِ من المرض والنزوح، فالكلّ يعيش في جحيم غزة، والكل يكتشف معاني وتعاريف جديدة للقهر بشكل لحظي.

في حرب الإبادة الجماعية، ثمة أكثر من مليون و700 ألف فلسطيني أصيب بأمراض معدية بسبب النزوح، وقرابة 100 ألف جريح بسبب قصف الاحتلال، ناهيك عن عشرات الآلاف المصابين بالسرطان والأمراض التي يصعب شفاؤها، والأطفال الذين نجوا من الموت جوعًا كما حصل مع العديد من أقرانهم، كل هؤلاء يتمنون الموت ألف مرة، على أن يعيشوا يومًا واحدًا يرون فيه كل هذه الأهوال.

حدث كلّ ذلك على مرأى العالم المتحضر أجمع، وفي عصر يملك كل فرد بالغ فيه هاتفًا جوالًا على الأقل، شهد الجميع على جرائم الاحتلال، فلم تعد إمبراطوريات الإعلام التقليدية في العالم قادرة على إخفاء الجرائم، وبالتالي مليارات البشر كانوا شاهدين على فاجعة بدأت من عام وما زالت مستمرة، لكن أمرًا لم يتغير.

الكل شاهد كيف كانت وفود قادة دول العالم تحج نحو تل أبيب، ونحكي عن دول كبرى، منهم من تفرغ نتنياهو لاستقبالهم وتقبل منهم فروض الطاعة العمياء، ومنهم من لم يحالفه الحظ بذلك، فوجدنا للمرة الأولى بالعصر الحالي ربما تباينًا رهيبًا بين الشعوب الغربية وحكوماتها، وصدرت احتجاجات طلابية عالمية اجتاحت الجامعات والساحات، هذا التضامن الطلابي صدر بعد كسر حاجز وكالات الإعلام الكبرى، ورؤيتهم للحد الأدنى من الحقائق، ومع ذلك لم يتغير شيء.

التواطؤ الدولي كان واضحًا، وقادة البلدان الغربية قامروا بمطالبات شعوبهم من أجل إرضاء الاحتلال، وترسخت قناعات تتمثل بأن من لم ترض عنه "إسرائيل" لن يجلس على كرسي حكم، حتى لو كان الأمر يتعلق بدول بعيدة وبعيدة جدًا، فمن لا يشارك الاحتلال بجرائمه يعتبر عدوًا له، ومن يتخذ طرفًا محايدًا أو شبه محايد فلن تغفر له آلة الاحتلال السياسية ولا الإعلامية، وشمل هذا الأمر الأمم المتحدة، والتي مُنع أمينها العام من دخول "إسرائيل" لأنه "لم يندد كما يجب".

هي إبادة جماعية، شارك فيها الكثيرون، صهاينة وغربيون، لكن الأمر الأكثر إيلامًا لأهالي غزة أن الكثير من الشركاء كانوا من أبناء جلدتهم، ففي بقعة جغرافية ضئيلة تحاذي دولة عربية، لم تجرؤ هذه الدولة على إرسال برتقالة إلى ملايين الجوعى، دون إذن من الاحتلال، كذلك الحال بالنسبة لدولة أخرى استعرضت بسذاجة كيفية مساعدة المحاصرين، من خلال رمي المساعدات من طائرة حلّقت بعد إذن من الاحتلال.

هو خذلان عربي وصل لمرحلة التواطؤ والاشتراك بالجريمة، فكل محاولات المقاومة ضد الاحتلال منذ سنوات كانت بعيدة عن التبني الحكومي، وأتت بواسطة فصائل وجماعات، حيث ضمن الاحتلال تأمين جدرانه الحدودية، وأي محاولة لتغيير هذه الجدران ستكون نتائجها وخيمة، وهو ما حدث بالحالة السورية، لكن دعونا لا نكتفي بتحميل تلك الدول هذا العار، فعلى سبيل اليقين، لو بدلنا مكان أي دولة عربية ووضعناها مكان البلدان الحدودية للاحتلال، لرأينا النتائج نفسها، فقد جربناها لمدة عام، ولم يستعمل أي منها الحد الأدنى من وسائل الضغط الواقعية.

هي لطخة سوداء على جبين البشرية، وجرح لن يندمل، ستدوم آثاره لعقود وربما لقرون، فما قبل الإبادة الجماعية على غزة ليس كما بعدها، ولو شربنا من نهر الجنون وسلّمنا بإيقاف العدوان، وشفاء 100 ألف جريح، فثمّة عشرات الآلاف من الأيتام والثكالى، وجيش من المعوقين، منهم آلاف من مبتوري الأطراف في عدوان بُترت فيه أطراف 10 أشخاص بشكل يومي، ناهيك عن الآثار المدمرة التي تسبب بها العدوان، والتي ستشهد عليها الجغرافيا لعقود قادمة، فنسبة كبيرة من تربة غزة لم تعد صالحة للاستخدام بسبب الأسلحة الفوسفورية، وبحر غزة تلوث بنسبة 87 % لتلوثه بمياه الصرف الصحي بعد تدمير الاحتلال للبنى التحتية للقطاع، والكثير الكثير من الأرقام التي تكشف طبيعة الاحتلال، فهو دمر كل ما تعلق بالماضي والحاضر تقريبًا، وخلف الكثير من الجرائم من أجل المستقبل.

كلنا شركاء في هذه الجريمة، بعجزنا، بطريقة أو أخرى، كنا من مليارات البشر الذين شاهدوا كل ذلك ولم ينجحوا في إحداث أي تغيير، نحن متخلفون تقنيًا، عاجزون عمليًا، مقموعون في بلداننا، وأقصى ما بإمكاننا فعله هو تذكير الأجيال القادمة بجرائم الاحتلال، وتعزيز صورته الحقيقية في وجدانهم، والرفض لأي محاولة مستقبلية للتطبيع معه، وهو تحد هائل ندرك جميعًا أننا على مقربة منه، فهو عدو محتل، وسيبقى كذلك.