مثلما ورث الشمال الجزائري مسارحَه عن فرنسا، الهيكل لا المسرح، بقي الاعتقاد سائدًا إلى وقتٍ قريبٍ أن المسرح كما يُفهم ويُمارس حديثًا، حكر على هذا الشمال، وأن الجنوب الصّحراوي الكبير قد يستطيع أن يُلهم عملًا مسرحيًا لكنه لا ينجزه. وتعزّزت هذه العين الفنية المتعسّفة بعين سياسية كانت ترى في الجنوب مجرّدَ حقلٍ للبترول.
غير أن الفرص التي منحت للمسرحيين المقيمين في الجنوب الجزائري، في السنوات الأخيرة، من خلال عدّة منابرَ ومناسباتٍ، منها "أيام المسرح في الجنوب" المقامة في الجزائر العاصمة، وظهور جمعيات وتعاونيات مسرحية أسّست تظاهراتٍ للمسرح في مدن الجنوب، وافتكت بأعمالها جوائزَ وازنةً في الدّاخل والخارج، وضعت المشهد المسرح الجزائري أمام حقيقة جديدة، هي أن هناك طاقاتٍ جزائريةً في الجنوب، تجاوزت مرحلة الهواية، إلى مرحلة المنافسة بأعمال مختلفة.
بؤرة الشغف، لدى عزّوز عبد القادر، هي البعد الأفريقي في الهوية الجزائرية
جاء عزّوز عبد القادر (1982) إلى الفنّ الرّابع عن طريق الكشّافة، في مدينة تمنراست، 2300 كيلومترًا جنوبًا، "حيث اكتشفتُ في لحظةٍ ما لا أستطيع وصفها الآن، أنني لم أخلق لأمارس المسرح فقط، بل لأناضل من أجل أن يصبح حقيقة يومية في حياتنا أيضًا. ثمّ استقرّت هذه القناعة داخلي، حين شاهدت مسرحية "حمق سليم" لعبد القادر علّولة، وهو ما دفعني إلى الإقبال على مشاهدة وقراءة معظم أعماله".
اقرأ/ي أيضًا:عمر المعتز بالله.. مسرح صنع في مصر
من هنا، يقرّ عزّوز لعلولة بالمساهمة في برمجته على المسرح ممارسةً، ولامحمد بن قطاف في برمجته على الظهور. "أن تظهر على يدي عملاقين، عليك أن تبذل جهدين معًا، ألا تكون مثلهما فتخسر ذاتك، وألا تخيّبهما فتخسر الثقة فيك".
يستحضر بداياته فيقول إنه كان ناقمًا على كلّ شيء، "على ما يحدث في البيت والشارع والمدرسة والسّوق والمدينة والبلاد، وكنت كلما سمعت سائحًا يبدي انبهاره بما يرى عندنا، أسأل نفسي: هل هو يكذب علي أم أنني فقدت حاسّة البصر؟ وهو ما دفعني إلى ترويض نفسي وعيني على استهداف الجماليات في محيطي وثقافتي وطقوسي، فتحوّلت نقمتي إلى شغف".
بؤرة هذا الشغف، لدى عزّوز عبد القادر، كانت البعد الأفريقي في الهوية الجزائرية، وما يكتنزه من طقوسياتٍ ومقولاتٍ وأساطيرَ وحفرياتٍ وجماليات. "إمّا لجهلٍ وإمّا لخيار سياسي أحادي، تمّ اختصار الهوية الوطنية في البعدين العربي والإسلامي، وتمّ إلهاؤنا عن الأبعاد الأفريقية والأمازيغية والمتوسطية، رغم العمق التاريخي لهذه الأبعاد في النفوس والفنون والممارسات والمخيال".
عزّوز عبد القادر: ثقافتي الأفريقية ربّتني على احترام كلّ الطقوس
هكذا، قرّر عزّوز أن يستثمر جماليًا في البعد الأفريقي، خاصّة من زاوية المرأة، بالنظر إلى أن الثقافة الأمازيغية والأفريقية التي تنتمي إليها منطقة تمنراست ثقافة أموسية، نسبة إلى سلطة الأمّ في البيت والمحيط، وبالنظر إلى أن المرأة كينونة تستقطب معظم الأسئلة المتعلّقة بوجود الإنسان. "حضور المرأة في الجنوب يختلف عن حضورها في الشمال، وكذلك عطاءاتها، لذلك فقد تناولتُها مسرحيًا من زاوية أنها من يطرح الأسئلة، لا أن تُطرح الأسئلة بخصوصها، وهو ما أعطى مسرحياتي نكهة خاصّة".
اقرأ/ي أيضًا: لعنة "شبح الأوبرا" تصيب مسرح "موغادور" الباريسي
تعزّزت هذه النكهة الخاصّة في تجربة عزّوز، بصفته مخرجًا، بأن التقى الممثلة وهيبة باعلي، اللبؤة السّمراء، التي افتكّ معها 12 جائزة وطنية وعربية. "كثيرًا ما يُسأل المخرج المسرحي أو السينمائي عن شعوره بتتويجه، لكنه لا يُسأل عن شعوره حين يجد الممثّل الذي يبحث عنه، بالمواصفات الدقيقة التي يقتضيها عمله الفني، ذلك أن المخرج الحقيقي يشعر بالحزن والغبن، حين يضطرّ إلى أن يشتغل مع ممثل، فقط لأنه الأقل رداءة".
يقول عزّوز إنه ليس من أنصار تعرية المقدّسات والجرأة عليها والاستهزاء بمن يؤمنون بها. "ثقافتي الأفريقية ربّتني على احترام كلّ الطقوس، وأجد أن وظيفتي بصفتي مسرحيًا هي التقاط اللحظات الفنية والجمالية والإنسانية فيها، ثمّ إن بعضها كما يُمارس في الواقع، أكثر حرارة وأعمق صدقًا. يفقد الفنان مصداقيته الفنية حين ينحاز لغير الإنسان".
يستفيد العمل المسرحي الذي ينجزه عزّوز إخراجيًا وسينوغرافيًا، من مفردات الطبيعة التي يعيش فيها، "لماذا أبحث عن تقنيات جديدة في باب الإضاءة مثلًا، وأنا أشاهد يوميًا قمرًا يمنح لليلي معنًى وبهاءً خاصّين؟ يهمّني أن أقول إنني لا أتاجر بكوني أنتمي إلى هذا المكان المنسي، على أكثر من صعيد، حين أستثمر في مفرداته، بل إنني أتغذى منه تمامًا كما تغذّيت على حليب أمّي، فالمتاجرة بالأماكن لا تختلف في قبحها ووقاحتها عن المتاجرة بالأمّهات".
رغم ظهوره متأخرًا، وقلة الإمكانيات الممنوحة له وللعاملين معه، في مدينة تستغرق الحافلة ثلاثة أيام في الوصول إليها من الجزائر العاصمة، إلا أن مسرحياته استطاعت أن تفتكّ 27 جائزة في مهرجانات وطنية وعربية، نذكر منها: مهرجان المسرح الأمازيغي ومهرجان خنشلة للطفل ومهرجان المونودراما في مدينة الأغواط ومهرجان المسرح النسوي في مدينة عنابة والمهرجان الدولي سيدي قاسم في المغرب ومهرجان البقعة في السودان ومهرجان مارا في تونس.
اقرأ/ي أيضًا: