09-يوليو-2024
انتخابات فرنسا التشريعية

(APF) الجمعية الوطنية الفرنسية

تقف فرنسا على مفترق طرقٍ كبير عقب الإعلان عن نتائج الانتخابات التشريعية بجولتيْها، حيث لم يتمكن أي تحالفٍ، من تحقيق الأغلبية (289 نائبًا) التي تسمح بتشكيل الحكومة، وعلى هذا الأساس طلب ماكرون من رئيس وزرائه غابرييل أتال، الذي قدّم استقالته في وقتٍ سابق، الاستمرار في تصريف العمل الحكومي حتى إشعارٍ آخر، وذلك "من أجل استقرار البلاد" حسب ماكرون.

وحذّر وزير الاقتصاد والمالية الفرنسي، برونو لومير، من خطر "أزمةٍ مالية وتراجعٍ اقتصادي" يُنذر به "المعطى السياسي الجديد" المتمثل في عدم انبثاق أغلبيةٍ عن الانتخابات التشريعية السابقة لأوانها. ويحتاج الفرقاء الفرنسيون، حسب متابعين، عدة أسابيع حتى تتمكن أيٌّ من الكتل الثلاثة الرئيسية في البرلمان تكوين أغلبية كافية لتشكيل الحكومة الجديدة.

أبرز السيناريوهات المحتملة في ظل برلمان معلّق

أمْلت نتائج الدورة الأولى من الانتخابات التشريعية ما يسمى فرنسيًا "تحالفات الضرورة"، إذ لم تعتد فرنسا على "بناء تحالفات بعد الانتخابات كما هو شائع في الديمقراطيات البرلمانية في شمال أوروبا مثل ألمانيا وهولندا"، والحديث ههنا عن 3 تحالفات حصدت غالبية مقاعد البرلمان الفرنسي البالغ عددها 577 مقعدًا.

التحالف الأول هو تحالف الجبهة الشعبية الجديدة، وهو تحالف من قوى تنتمي لأقصى اليسار ووسطه، وقد احتل الصدارة بحصوله على 182 مقعدًا، وحلّ بعده ثانيًا تحالف "معًا" الرئاسي بـ168 مقعدًا، فيما تراجع تحالف اليمين المتطرف ـ الذي يضم التجمع الوطني اليميني وإيريك سوتي الذي كان يتزعم حزب "الجمهوريون" المحافظ ـ إلى المركز الثالث بـ143 مقعدًا. وجاء في المركز الرابع الجمهوريون بتحقيق 66 مقعدًا، ويساريون مستقلون خامسًا بنحو 12 مقعدًا، وآخرون بستة مقاعد.

قد يسعى ماكرون إلى إبعاد الاشتراكيين والخضر عن الائتلاف اليساري لتشكيل ائتلاف يسار الوسط مع كتلته "معًا"، ولكن لا يوجد ما يشير إلى تفكك وشيك للجبهة الشعبية الجديدة

وفي ظل هذه التوزيعات ليس بإمكان أي حزبٍ أو تحالفٍ خاض الانتخابات التشريعية "تحقيق الغالبية المطلقة بمفرده والبالغة 289 نائبًا في الجمعية الوطنية"، ما يجعل جميع الكتل بحاجة إلى دعم البقية لتمرير أي تشريعاتٍ وتشكيل أي حكومةٍ جديدةٍ.

سيناريو تشكيل ائتلاف بين تحالف "معًا" ويسار الوسط

على الرغم من أنّ إخفاق اليمين المتطرف في تحقيق الأغلبية التي كان يتوقعها، هو في جانب كبير منه، حسب فرانس برس، نتيجة تنسيق بين الجبهة الشعبية الجديدة وكتلة "معًا" لخلق تصويتٍ مضاد لليمين المتطرف، إلا أنّ أطرافًا في الكتلتين (كتلة معًا وكتلة الجبهة الشعبية الجديدة) ترفضان بشكلٍ قاطع التحالف والتنسيق لتشكيل الحكومة. حيث رفض زعيم حزب فرنسا الأبية، جان لوك ميلونشون، الذي حصل حزبه على أكبر عددٍ من المقاعد ضمن تحالف الجبهة الشعبية الجديدة، تشكيل ائتلافٍ واسع ودعا ماكرون في المقابل إلى دعوة الائتلاف اليساري للحكم.

وبدوره استبعد ستيفان سيغورن، زعيم حزب النهضة الذي يتزعمه ماكرون، أي اتفاقٍ مع حزب فرنسا الأبية تحت قيادة ميلونشون، لكنه في المقابل أعلن انفتاحه على العمل مع الأحزاب الرئيسية.

وعلى ذات المنوال، استبعد رئيس الوزراء السابق إدوارد فيليب أي اتفاقٍ مع حزب أقصى اليسار، لكنه لم يستبعد التوصل إلى اتفاقٍ مع باقي أحزاب التحالف اليساري الفائز بأكبر حصة من مقاعد البرلمان، وهذا هو السيناريو الأول، أي تشكيل تحالفٍ بين معسكر ماكرون الرئاسي "معًا"ـ وأحزاب من يسار الوسط ومن المحافظين.

يشار إلى أنّ تصريحات أوليفييه فور رئيس الحزب الاشتراكي المنضوي في الجبهة الشعبية الجديدة كانت أقلّ حدَةً من تصريحات ميلونشون تجاه ماكرون وتحالف معًا الرئاسي، في منحى فُهم منه عدم استبعاد دخوله في تحالف مع "الماكرونيين"، حيث قال فور إنه "ينبغي أن نتمكن خلال الأسبوع الراهن من تقديم مرشح" لمنصب رئيس الوزراء، دون أن يستبعد التحالف مع المعسكر الرئاسي كما فعل ميلونشون.

فيما دعا رافائيل غلوكسمان، وهو من يسار الوسط، الطبقة السياسية إلى التصرف "مثل البالغين".

وردًّا على ما يروج من احتمال تشكيل ائتلافٍ "بين المعسكر الرئاسي والقسم الأكثر اعتدالًا من جبهة اليسار"، علق مسؤول في فرنسا الأبية باستياء قائلًا: "يحاول الماكرونيون سلبنا الفوز وتشكيل ائتلاف. يجب أن يتصل بنا رئيس الجمهورية".

كما قالت زعيمة المدافعين عن البيئة في الجبهة الشعبية الجديدة، مارين توندولييه، إن على الرئيس ماكرون أن "يدعو اليوم" اليسار إلى اقتراح اسم شخصية لتولي رئاسة الحكومة.

يبقى سيناريو تفكك الجبهة الشعبية الجديدة، مجرّد افتراض غير قائم حتى اللحظة ومستبعدًا، بعض الشيء، حسب متابعين، خاصةً أنّ الجبهة أكدت بشكلٍ جماعي يومًا بعد إعلان نتائج الانتخابات أنّ "برنامج الحكومة المقبلة يجب أن يستند إلى مشروع الجبهة الشعبية الجديدة. وينص هذا البرنامج على إلغاء إصلاح النظام التقاعدي وقانون الهجرة وإصلاح مخصصات البطالة وتحديد الحد الأدنى للأجور الصافي بنحو 1600 يورو".

يذكر أنه داخل الجبهة الشعبية الجديدة، حصل حزب فرنسا الأبية على العدد الأكبر من النواب بنحو 7% نائبًا، إلا أنّ الاشتراكيين والشيوعيين والمدافعين عن البيئة حققوا مشتركين عددًا أكبر من نواب حزب فرنسا الأبية. يضاف إلى ذلك تمكن بعض النواب اليساريين، ممن "قطعوا روابطهم مع قيادة فرنسا الأبية"، من الدخول للبرلمان.

سيناريو حكم اليسار

عبر تحالف اليسار عن استعداده للحكم، وللتمكن من ذلك أمامه طريقان، طريق التحالف مع حزب النهضة الرئاسي، وهذا مستبعد في ظل إصرار حزب فرنسا الأبية على رفض ذلك. والطريق الثاني هو بناء غالبيةٍ من نواب ينتمون لتياراتٍ مختلفة، وسيكون هذا خيارًا مرهقًا، نظرًا للصعوبات التي تحفّ به.

وفي هذا الصدد قال إيان بروسا الناطق باسم الحزب الشيوعي: "سنضطر على صعيد عددٍ كبير من المسائل لتوسيع غالبيتنا لأنها لن تكون كافيةً". وذات المنحى أكد عليه المدافع عن البيئة يانيك جادو بقوله "علينا بناء غالبياتٍ حول مشروعنا".

لكن التحدي الأول الذي يمثل اختبارًا لمتانة تحالف الجبهة الشعبية الجديدة حاليًا هو تقديم اسمٍ لرئاسة الوزراء، وبحسب المعلومات القادمة من باريس بدأ التحالف بمناقشاتٍ داخلية، وصفتها فرانس برس، بالشاقة لتعيين رئيسٍ للوزراء.

وفي هذا الصدد يرى مانويل بومبار، المنسق الوطني لحزب فرنسا الأبية، أن الخيار يمكن أن يحصل "بالتوافق" وليس بالضرورة عبر التصويت داخل الجبهة الشعبية الجديدة. وقال بومبار: "يجب أن نأخذ الأمور مرحلةً بمرحلة. النقاش يجب أن يحصل اليوم أولًا بين التشكيلات السياسية المختلفة في ائتلافنا. من ثم يحصل اقتراح. وبطبيعة الحال أتمنى أن يكون هذا الاقتراح موضع اتفاقٍ لدى كل النواب وليس بالضرورة عبر التصويت. يمكن أن يحصل توافق".

سيناريو حكومة تكنوقراط

قد يلجأ الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في حال فشله في اجتذاب الاشتراكيين والخضر من تحالف الجبهة الشعبية الجديدة، إلى خيار حكومة تكنوقراط وتسمية شخص مقبول لدى أغلبية البرلمانيين في الجمعية الوطنية الفرنسية. وسيتطلب هذا الخيار من ماكرون أن ينحصر دور حكومة المستقلين في إدارة "الشؤون اليومية" وتجنب الإشراف "على التغييرات الهيكلية" لحين فض مشكل عدم توفر أغلبية برلمانية.

وقد يجنب هذا السيناريو فرنسا شلّ عمل المؤسسات وأزمة الشرعية بعد تنظيم انتخابات سابقة لأوانها عقّدت من حسابات المشهد السياسي الفرنسي.

ختامًا، فإنه في حال عدم توصل الفرقاء السياسيين إلى اتفاق يفضي إلى تشكيل حكومة تحظى بالدعم البرلماني المطلوب، فإن فرنسا مهددة بالدخول في نفق مظلم، فوفقًا للدستور الفرنسي، ليس بإمكان الرئيس ماكرون "الدعوة إلى انتخاباتٍ برلمانية جديدة لمدة 12 شهرًا".

وعلى الرغم من حق ماكرون الدستوري في تسمية الشخصية التي تشكل الحكومة، فإنّ من سيختاره سيواجه تصويتًا على الثقة في الجمعية الوطنية في الثامن عشر من تموز/يوليو الحالي، فهل ستتمكن "العقلانية الفرنسية" من تجنيب فرنسا سيناريو الدخول في المنطقة المجهولة؟.