بعد 20 عامًا قضاها الأديب الياباني هاروكي موراكامي في ممارسة الجري كأحد طقوسه اليومية، وشبه التعبديّة الثابتة؛ كتب مقالًا طويلًا في مجلة "ذا نيويوركر" عن حياته في الكتابة والجري.
مارس هاروكي موراكامي رياضة الجري لمدة 25 عامًا متواصلة، وألف كتابًا عن حياته مع رياضة الجري
وبعد 20 أسبوعًا قضيتها أنا في تمارين الجري، أكتب هذه السطور. المقارنة قد تدعو للضحك، فموراكامي عدّاء مسافات ماراثونية، وأنا ما زلت أراوح مسافة بالكاد تصل إلى 10 كيلومترات، هو يكتب للاحتفاء بإنجاز حقيقي راكمه خلال سنوات عديدة قطع خلالها مسافات طويلة، بينما أكتب أنا في لحظة اكتشاف طفولية، وأمل محفّز، لا أدري كيف ورطت نفسي به، لكنه دفعني لأقرأ موراكامي من جديد، بعد انقطاع عن الاهتمام به، في انتظار الشروع بقراءة مذكراته وأفكاره عن حياته مع رياضة الجري، المجموعة في كتاب "What I Talk about When I Talk about Running".
اقرأ/ي أيضًا: من أين أبدأ مع هاروكي موراكامي؟
فقبل عدة أسابيع، تحديدًا قبل 19 أسبوعًا، بدأتُ برنامج جريٍ بسيطًا، يصل بك في غضون تسعة أسابيع للجري مسافة خمس كيلومترات في 30 دقيقة. وبعد أن أتممت البرنامج بنجاح، واظبت على ركض هذه المسافة ما بين ثلاث إلى أربع مرات في الأسبوع، محاولًا في آخر تمرين من كل أسبوع، زيادة المسافة قليلًا في وصولًا إلى مسافة 10 كيلومتر، في برنامج يمتد لعشرة أسابيع أخرى.
ثم قررت المشاركة لأول مرة في سباق 10 كيلومتر، وحصلت على رقم علقته على قميصي. وكان ذلك في ماراثون عمّان في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، وأنهيت السباق في ساعة و12 دقيقة.
كان الأمر بالنسبة إليّ في البداية محاولة للصمود في هذه المدينة، فلا شيء يغري في السير مشيًا أو هرولة في شوارع عمّان إن لم أضمن فائدة حقيقية أجنيها من وراء ذلك. هكذا باتت علاقتي مع المدينة والجري، علاقة منفعة سلبية، قائمة على الاستغلال المتبادل، كلما سنحت الفرصة.
أنهيت البرنامج بنجاح، وبعد عدة أسابيع من البرنامج الجديد التالي، بدأت مقاربتي للأمر تختلف، خاصة بعد اختباري حالة يورفوريا لذيذة ومختلفة بعد كل مرة أركض بها، وعرفت لاحقًا أن هنالك أمرًا يدعى بالفعل "نشوة العدائين"، تحصل حين تتخطى حاجزًا جديدًا في التمارين، وتكتشف أنّك قادر على الجري لمسافة أطول أو بسرعة أكبر، أو أنك تستطيع استكشاف طرق جديدة لإنجاز تمرينك. وكان ذلك مكافأة إضافية بت أجنيها، إضافة إلى شعوري بتحسن لياقتي عمومًا خلال هذه الفترة.
من ناحية أخرى، كنت دومًا أحسب أني إنسانٌ بلا هواية، يستهلكني العمل والجلوس الطويل أمام اللابتوب أو الكتب. ووجدت أن هذه قد تكون فرصتي المتأخرة الوحيدة، في بداية الثلاثينات، لاكتساب هواية ما، مهما بدت سخيفة، كالجري بعض الكيلومترات بضعة أيام في الأسبوع.
وبالفعل اشتريت ما يلزم من عدّة أساسية، وكنت أعرف أنني لو استثمرت مبلغًا من المال في هذا الأمر فسيكون ذلك حافزًا أكبر للاستمرار، وأخذ الأمور على محمل الجدّ. وهذه العدّة الأساسية هذه ليست سوى حذاء رياضي جيد. ولأني لا أطيق البرد، اشتريت ملابس داخلية طويلة مناسبة للرياضة، كي أرتديها مع البنطال والجاكيت الرياضي الخفيف، كي لا أتذرع ببرودة الشتاء فأخسر كل ما أنجزته.
اعتدت على الاستيقاظ قبل أن تطلع الشمس، فأضع ملابسي، وأنسلُّ من باب البيت بهدوء، وأخرج لأركض. كان أصعب ما في الأمر هو الحيرة التي كانت تشلّني أثناء ارتداء حذائي، في تحديد الطريق الذي سأسلكه. وأعاقني ذلك بضع المرات، بل أصابني بإحباط شديد، كدت أفقد معه الأمل في الاستمرار، رغم أنه تملكتني رغبة شديدة في الجري.
وكان سبب الحيرة أنني كنت لا أريد أن أتوجه بالسيارة إلى مكان بعيد، كي لا أعلق في الازدحام عند العودة، كما أنني لا أملك رفاهية استكشاف طرق جديدة من حولي. ولمواجهة هذا، صرت أحسم أمري بهذا الشأن في الليلة التي تسبق التمرين، لأرسم خطًا واضحًا أركض فيه، يناسب المسافة التي سأقطعها. وكنت لا أحب أن أجري نصف المسافة ثم أرجع إلى نقطة البداية، فوجه المتعة في الجري يتمثل في استيهام القدرة على الانطلاق بعيدًا وبحرية دون القلق كثيرًا بالعودة. راقتني فكرة أنني أستطيع في أية لحظة أن أرتدي حذاءً رياضيًا وأجري مسافة طويلة، وأستريح في مكان ما بعيد، وأصفي ذهني قليلًا قبل العودة للعمل.
أما هاروكي موراكامي، فبدأ هواية الجري الخاصة به عام 1982، وهو في الـ33، عمر انتقال السيد المسيح، والعمر الذي بدأ فيه موراكامي حياة جديدة، ككاتب حقيقي، بعد أن أغلق البار الذي كان يديره هو وزوجته في طوكيو، والذي كان يستنزف منه وقته وجهده، ويحرمه من النوم خلال الليل.
عندها قرر موراكامي أن يغير نظام حياته بأكمله، فانتقل للعيش في منطقة ريفية هادئة، وبدأ يغير عادات نومه، ولم يجد أمامه حين قرر ممارسة الرياضة الكثير من الخيارات، وهكذا اختار الجري.
زوج حذاء مناسب. هذا فعليًا كل ما كان موراكامي بحاجة إليه، ولم يكن قلقًا كثيرًا بشأن المكان، لأنه كان قريبًا من ميدان مخصص للجري في تلك الضاحية الريفية التي اختار الإقامة فيها.
كان موراكامي مدخنًا شرهًا أيضًا، فترك التدخين، وشقّ عليه ذلك، لكنه وجد استحالة في الاستمرار في الجمع بين الأمرين؛ ويذكر موراكامي أن رغبته الكبيرة في الاستمرار في الجري ساعدته في تجاوز أعراض الانسحاب من التدخين، واعتبر نجاحه في الإقلاع عن التدخين بمثابة وداع أخير وحاسم لنمط الحياة الذي كان معتادًا عليه من قبل، والذي كان قائمًا على التدخين والشرب والسهر الطويل حتى ساعات الفجر الأولى، وذلك حين كان يعمل في البار، حيث كان يضطر للبقاء فيه بعد مغادرة الزبائن لتنظيف المكان وتدقيق الحسابات والترتيب لليوم التالي، ما يعني فعليًا أنه كان ينام قبيل الفجر ويستيقظ عند الظهيرة.
أعترف أنني لم أحب موراكامي كثيرًا، أي رواياته، إذ كانت تصيبني بشيء من الكآبة دومًا. لكن ذلك تغيّر حين اكتشفت ذلك الجانب من حياته كعدّاء مسافات طويل النفس، شارك في أكثر من 30 سباق ماراثون، ويركض يوميًا منذ عام 1982، بمعدل 60 كيلومترًا في الأسبوع.
ففي لحظة ما كنت أستجمع الأسباب الموجبة التي تدفعني للاستمرار في ممارسة الجري، بعيدًا عن كلام الرياضيين وخبراء الصحة، وأن أجد مثالًا أستطيع التعلق به وفهمه والتطلع إليه. فأنا لا أريد أن أكون هايلي جبريسيلاسي، ولا أستطيع أن أفهم كيف وصل إلى أرقامه القياسية، لكنني في المقابل أفهم ما يقوله موراكامي وأتفاعل معه، كقارئ على الأقل، وربما كمنشغل في الترجمة والكتابة.
وفي العام 1987، وهو العام الذي ولدت فيه، تغيرت حياة موراكامي إلى الأبد، وذلك بعد أن حققت روايته "الغابة النرويجية"، وهي أول رواية قرأتها له، نجاحًا مبهرًا، وبيع منها أكثر من مليوني نسخة، وحصل ذلك له بالتوازي مع نجاحه في تجاوز كسله القديم ونفضه عنه كليّةً عبر التنسّك في رياضة الجري، والتصالح مع أهمّية العناية بهذا الجسد، للكاتب وسواه من البشر.
وفي كتابه سابق الذكر (What I Talk about When I Talk about Running) الذي يصفه بأنه "نوع من المذكرات الشخصية"، يتحدث موراكامي عن حياته مع الكتابة والجري، والتقاطع بين الأمرين في حياته، بشكل جعله يرى أنه لم يكن ليصبح كاتبًا جيدًا لولا الجري، ولا عداءً لولا الكتابة، وهما أمران لم يحققهما بأي قدر من السهولة.
فبعد أن أغلق موراكامي البار، وقرر التفرغ للكتابة وتكريس حياته لها؛ واجه مشكلة يعاني منها كل كاتب، تمثلت في سؤال: "كيف أحافظ على لياقتي الجسدية؟"، فالجلوس لفترات طويلة أمام الشراب والدخان كان طريقًا سريعًا إلى السمنة وتدهور الصحة، فقد كان يدخن موراكامي علبتين من السجائر يوميًا، ما جعل أنامله دائمة الاصفرار، ورائحته تنضح دخانًا.
لذا قرر أنه إن كان يريد أن يعيش حياة طويلة كروائي، فإن عليه أن يجد طريقة لإصلاح صحته، وتلك الطريقة كانت الجري، وهو خيار منطقي لرجل لم يمارس رياضة من قبل ويفتقر إلى ما تتطلبه الرياضات الأخرى من تناسق عضلي ذهني وسرعة في ردة الفعل، فكان الجري هو خياره الأنسب الملائم لشخصيته.
تقاطع الجري مع الكتابة في حياة موراكامي حتى بات يرى أنه لم يكن ليصبح كاتبًا لولا الجري ولا عداءً لولا الكتابة
ثم إنه من السهل دمج الجري في الحياة اليومية، خاصة لمن يستطيع التهرب من الالتزامات الاجتماعية والنوم باكرًا، وهو أمر كان يتقنه موراكامي، فبمجرد أن بدأ حياته الجديدة ككاتب، صار في هذه الحياة الجديدة والبسيطة والمستقرة، يستيقظ قبل الخامسة فجرًا وينام قبل العاشرة مساء، وذلك كما يذكر موراكامي، كان السرّ الذي مكنّه من العمل بكفاءة طيلة هذه السنوات، رغم أنّه خسر شيئًا من علاقاته الاجتماعية بسببه، ولم يكن مهتمًا كثيرًا بذلك، لأنه كان يرى قراءه هم أصدقاءه الحقيقيين، وأنهم لن يكترثوا لنمط الحياة الذي اختاره ما دام يقدم لهم في كل مرة عملًا جديدًا يستحق القراءة.
اقرأ/ي أيضًا: