فقدت صوتي إثر جراحة لاستئصال الغدة الدرقية. كل ما ظل لدي هو فحيح لم ينجح في التحول إلى كلمات صريحة، غير أن من حولي كانوا لطفاء للغاية فمثلوا، دون أن يتقنوا التمثيل، أنهم يفهمون تمامًا همهماتي السديمية، فراحوا يحضرون لي أشياء لم أطلبها، ويجيبون عن أسئلة لم أسالها، وبالغوا في اللطف إذ كانوا يضحكون على ما ظنوا أنها نكات لم يكن لدي رغبة ولا مزاج لأن أطلقها..
الإنسان، هنا في هذا المكان على الأقل، لا شيء من دون صوته. اكتب أو ارسم أو اعزف موسيقا، كن بيتهوفن نفسه.. فأنت لا شيء من دون صوتك، أنت لا أحد إذا لم تكن قادرًا على مقاطعة الآخرين وفرض صوتك الجهوري على الجلسة
ذهبت إلى طبيب مختص بالحنجرة كي أستمع إلى عبارة مطمئنة محددة: "هذا مؤقت وسوف يعود صوتك مثلما كان"، ولكن الرجل ذا الوجه المأساوي والعينين اللتين أنهكهما عذاب غامض قال عبارة مختلفة، بل معاكسة تمامًا: "عطب دائم وصوتك لن يعود أبدًا". وقد بدا لي أن هذه الكلمات هي ما كان يعذبه، هي سبب مأساته، ذلك أن أساريره انفرجت فور خروجها من فمه، وسرعان ما تبدلت صورة عينيه إذ عبرتا عن حبور مفاجئ محير!
ولقد بقيت أيامًا عديدة أجهد نفسي بالتذكر: أين يمكن لي أن أكون قد قابلت هذا الرجل، وما الأذى الذي ألحقته به حتى يبدي كل هذه الشماتة بخرسي الأبدي؟!
لا شك أنكم قابلتم شخصًا (شخصًا على الأقل) راح يخبركم عن اكتشافه المبهر للوجه المشرق من مأساته، عن إطلاق المصيبة لطاقاته الكامنة، عن الدروس الحكيمة التي استخلصها في خضم معاناته..
للأسف فأنا لست هذا الشخص، إذ أن مأساتي كانت كاملة، وأيام صمتي كانت سوداء بالمطلق، وكل ما استخلصته هو أن الصمت القسري أمر قبيح للغاية.. ولا أعتقد أنه يمكن لعاقل أن يعتبر هذا الاستخلاص حكمة من أي نوع!
ثم جاء صباح سعد لا أعرف إن كنت أستحقه، فصحوت على صوتي وقد علا واخشوشن وصار قابلًا للتجسد في كلمات، وإن كان قد تحول إلى ما يشبه صوت "أبو وديع"، أو بالأحرى: صوت واحد من أولئك المطربين الذين يستمدون شرعيتهم من أن صوتهم يشبه صوت "أبو وديع"!
وبعد أسبوعين، وكان القدر قد صار أكثر سخاء، جاء صباح غدا فيه صوتي يشبه صوتي.. إنه صوتي.
كما وعدتكم، فليس في جعبتي حكمة، ولكن بضع ملاحظات لا أعرف حقًا إن كنت قد لاحظتها أيام محنتي أم أنها من بنات أفكاري بعد ذلك ولكنني رأيت، لا شعوريًا، أنها تناسب تلك الأيام؟! لا يهم.. أظن أنه لا يهم. وهاكم ملاحظاتي:
ــ العالم من حولنا مترع بالضجيج، أكثر مما كنت أتخيل، أكثر بكثير مما كنت أحس. ربما كان صوتي الملعلع يغطي على هذه الحقيقة، وعندما أُجبرت على الصمت، تفرغت أذناي للإصغاء إلى سواي، فصدمتا بكل هذا الصخب: قرقعة مضخات المياه، طقطقة مولدات الكهرباء، هدير باصات النقل الداخلي، صراخ الدراجات النارية الطائشة، صياح الباعة الجوالين، زعيق الجارات النزقات، عويل الأطفال الملسوعين بالحر... كيف لم أنتبه سابقًا؟ كيف اعتدتُ؟ كيف نحيا، جميعًا، وسط كل هذا دون أن نفقد عقولنا؟!
ـــ الإنسان، هنا في هذا المكان على الأقل، لا شيء من دون صوته. اكتب أو ارسم أو اعزف موسيقا، كن بيتهوفن نفسه.. فأنت لا شيء من دون صوتك، أنت لا أحد إذا لم تكن قادرًا على مقاطعة الآخرين وفرض صوتك الجهوري على الجلسة.. إنهم يرونك لأنك تتكلم. اصمت فتغدو غير مرئي مهما فعلت.
اعتاد اخوتي وأصدقائي زيارتي كل يوم تقريبًا، وكانوا يبدأون زيارتهم بالسؤال عن صحتي وتشجيعي بالعبارات المحفوظة نفسها، ثم سرعان ما يتذكرون أني بلا صوت فينشغلون عني بنقاشاتهم الساخنة وحواراتهم الماراثونية. وعبثًا كنت أحاول لفت انتباههم، أفرقع بأصابعي، أصفق بيدي، أخبط قدمي، أسعل، أهمهم.. إلى أن أشعر باليأس، وأعرف أنني لن أكون موجودًا حتى أستعيد صوتي.
ــ تذكرت ما قاله لي مرة طبيب صديق عن أننا شعب شفاهي بالفطرة، وقد روى لي أنه قرر إراحة نفسه من الإجابة عن استفسارات المرضى الروتينية، فكتب أجوبة دقيقة مختصرة وواضحة في لوحات ألصقها على جدران قاعة الانتظار، ولكن دون جدوى فقد صار المرضى يقرعون باب غرفته ليسألوه إن كانت العبارات المكتوبة في الخارج صحيحة أم لا!
إيماءة واحدة تغني عن حديث بأكمله، وتقطيبة تكفي لحسم نقاش، وجملة مكثفة ومقتضبة بإمكانها شرح أكثر الأفكار تعقيدًا.. فلم كل هذا الفائض من الكلام؟!
عشت شيئًا مشابهًا، فقد استعضت عن صوتي الغائب بالكتابة إلى أصدقائي وزملائي في العمل (على الواتس أو الإيميل)، ورغم أنني كنت أكتب بلغة عربية سليمة، دقيقة وواضحة، إلا أني اكتشفت أن رسائلي كانت تحتاج دومًا إلى تأكيد صوتي شفاهي، ما اضطر زوجتي إلى أن تلعب هذا الدور الببغائي الشاق!
ــ ما أكثر الثرثارين من حولي، وكم كنت، أنا شخصيًا، ثرثارًا قبل أن أُكره على الصمت.. ولقد اكتشفت أن إيماءة واحدة تغني عن حديث بأكمله، وان تقطيبة تكفي لحسم نقاش، وأن جملة مكثفة ومقتضبة بإمكانها شرح أكثر الأفكار تعقيدًا.. فلم كل هذا الفائض من الكلام؟!
وماذا عن طبيب الحنجرة إياه؟
لا أستطيع الذهاب إليه لألومه أو أعاتبه. أخشى أن يخبرني بأنني أخرس مسكين يحلم بأنه يثرثر وسط مجتمع يحب الثرثارين!