ما هذا الحدث احتفاليّ الطابع الذي يجمعنا كلنا على مائدة واحدة ويخلق الألفة والمشاعر الإيجابية ويقوي العلاقات؟ ما الذي يجعل الناس تقيم الولائم على واحد من أكثر الأعمال المتعبة والتي تحتاج لتأنٍّ وذوق وخبرة؟ لماذا يرتبط فعل الطبخ بالكرم والسخاء، ويعبّر عن الترحيب والمودة؟
لماذا يرتبط فعل الطبخ بالكرم والسخاء، ويعبّر عن الترحيب والمودة؟
للإجابة على هذه الأسئلة أمامنا ثلاثة من إنتاجات نتفليكس الوثائقية التي تأخذنا إلى أماكن غير مألوفة وتعرّفنا على أبطال غير معروفين، في رحلة على عادات وأفكار لم نعطها الكثير من الوقت. لنتابع كيف غيّر الطبخ حياة البعض منا، وكيف كوّنت الطبيعة عادات الطبخ، وربطتها بثقافة المكان والعناصر المكونة لتلك الثقافة.
اقرأ/ي أيضًا: أسواق بقايا الطعام في مصر: كل ما تبقى للفقراء
1. Salt Fat Acid Heat
الطبّاخة والمؤلفة سامين نصرات سافرت حول العالم لاكتشاف العناصر التي تحدّد الطهو الجيد، وجلبت لنا أربعة منها، لم نكن نعتقد سابقًا أن لها كل التأثير على تحضير وجباتنا ومذاقها. دهن ملح حامض وحرارة، هذا عنوان كتابها الذي ألفته بناءً على أبحاث ثقافية قامت بها، ومن خلال زيارات إلى بلدان مختلفة، وأبحاث متعددة للوقوف عند أهم المكونات التي تؤثر على مذاق الأطعمة. العنوان ذاته هو لسلسلة من أربعة فصول من تقديم نصرات، وإنتاج شبكة نيتفليكس، تأخذنا معها كخبيرة طبخ ومؤلفة كتاب ومعلمة، تعتبر اليوم مرجعية في فنون الطهو وحسن المذاق.
الطبخ مع الآخرين بالنسبة لنصرات ليس أمرًا بسيطًا، بل له قيمة إنسانية وفنية تؤثر بشكلٍ مباشر علينا وعلى مذاق الطعام، من هنا قد تأتي الألفة التي تجمع عدد من الأشخاص الغرباء حول مائدة واحدة. المشاركة الحيّة، إلى جانب الانتباه للعناصر والمكونات التي من شأنها تحديد هوية المأكولات. لذلك تختار المؤلفة لكل مكون من مكوناتها الأربعة، بلدًا تزوره بغية اكتشاف هذا العنصر في موطنه، كيف يُنتج ومن ينتجه وطريقة التعامل معه، بالإضافة للمكونات الأخرى التي تنتمي إلى ذات العائلة مع هذا المنتج.
تسافر إلى اليابان، وفي إحدى جزرها تكتشف استخراج الملح من البحر وآلية تصنيعه، وتقف عند دخوله إلى مكونات أخرى وأثر الطعم المالح على ثقافة الطعام في اليابان وخصوصيته، وتأثير هذا الملح على الثقافة الشعبية وطريقة تحضير الطعام. الأمر عينه يحدث في المكسيك، التي قصدتها المؤلفة لاكتشاف أنواع الحمضيات التي تميز مذاق الأكل المكسيكي وتؤثر في مأكولات أخرى، بين البرتقال الحامض وحلو المذاق، والليمون بأنواعه المختلفة التي تحمل من دون شك علامة تميز المكان وعاداته في الطبخ.
وتشير أيضًا في جولاتها تلك إلى الطبخ بالمكونات الموسمية المحلية، الطبخ بعناصر أصيلة من المكان، من قبل أهل المكان، مما يقدم بالتالي صورة ثقافية عن هوية المكان، وعادات الأشخاص وما يتبع هذا الفعل من تمييز وخصوصية.
الطبخ مع الآخرين ليس أمرًا بسيطًا، بل له قيمة إنسانية وفنية تؤثر بشكلٍ مباشر علينا وعلى مذاق الطعام
2. Cooked
تختلف هذه العناصر الأربعة بين سامين نصرات والمؤلف مايكل بولان في كتابه "المطبوخ" Cooked، إذ يعود الصحفي والمؤلف إلى الطبخ كحاجة ضرورية للإنسان ميزته عن بقية الكائنات، على اعتبار أننا عندما طبخنا تخصصنا وتميزنا عنها. وهذا ما سهل علينا مهمة المضغ وبالتالي تحسس المذاق الجيد. فالطهو من طبيعتنا البيولوجية التي تميزنا كبشر ذواقين.
اقرأ/ي أيضًا: الطعام أحد محددات الهوية الوطنية
رحلة بولان تتخصص في تاريخية فكرة الطهو، والرابطة بين الطعام والطبيعة، وكيف يمكن للمرء استخدام جميع المهارات، للجمع بين المكونات الطبيعية والنكهات، ويفرد لها أربعة فصول أيضًا من سلسلة Cooked كتابه الذي تحول سلسلة على شبكة نتفليكس، ومن تقديمه أيضًا.
نار، ماء، هواء، وتراب. العناصر الأساسية للعيش على كوكب الأرض، وبحسب بولان، هي العناصر المحددة لطبيعتنا ومأكولاتنا وثقافتنا الغذائية. تدخل بشكلٍ مباشر في عملية الطهو وتحويل المكونات. ينطلق بولان إلى غرب استراليا، حيث ما زال يعيش قوم تارو، يوقدون النار لشواء طعامهم، الذي يعتمد بالمطلق على الحيوانات، لذلك ما زالوا يدينون للنار بالبقاء على قيد الحياة، هذا العنصر الذي أخفته الحياة العصرية بحسب مايكل بولان، وبالتالي غيرت العلاقة مع مفهوم الوجبة الغذائية، وجبة الطعام هذه المؤسسة الإنسانية التي يحدث فيها الكثير من الأشياء التي نتشاركها مع الأخرين. لذلك فقدنا التواصل منذ أن سمحنا للشركات أن تطبخ لنا.
فيما يتعلق بثقافة طعامنا التي صارت مفتقدة يرى بولان بأنه تجب إعادة التواصل مع مصادره، هذا لا يعني أن نتحول لصيادي حيوانات أو جامعي طعام، بل محاولة الوقوف عند النفع الذي ما زال بمقدور الطبخ التقليدي تقديمه لنا. الطبخ اليوم صار اختياريًا وليس إجباريًا، من يريد أن يطبخ عليه أن يجد له وقتًا وأن يستمتع به، وهذا من الصعب تحقيقه في ظل الحياة السريعة. أمّا فكرة الطهو في القدر، والتي تعتبر من أساسيات الطعام في بعض الثقافات التقليدية التي يمكن إيجادها في الهند على سبيل المثال، لم تعد موجودة في ثقافات أخرى غير أن القدر ذاته يختفي شيئًا فشيئًا.
تعبر هذه السلسلة عن كل ما يؤثر في ثقافتنا الغذائية ولم نعد نشعر بوجوده ونقدر قيمته، عن كل العناصر التي تؤثر في أسلوب العيش ولم يعد لها مكان، كالهواء الذي يغير من شكل خبرنا وطعمه، إلى الماء الذي لا يمكن الاستغناء عنه، والنار التي استعضنا عنها بالمايكرويف. عناصر أساسية في العيش تحولت إلى أدوات تقليدية ومنسية.
اختيارنا للطهو بمثابة تقديم احتجاج ضد ترشيد الحياة الذي تجبرنا عليه الشركات
هذا ما يقف عنده مايكل بولان، إعادة توجيه أنظارنا إلى ما أفقدتنا إياه الرأسمالية، خلال تغول التصنيع على الطبيعة. ليعلن في نهاية سلسلته بأن اختيارنا للطهو يعتبر بمثابة تقديم احتجاج ضد ما يسميه ترشيد الحياة الذي تجبرنا عليه الشركات.
اقرأ/ي أيضًا: حوار| الشيف سفيان مصطفى: لولا اللحم المشوي لما صنع الإنسان الحضارة!
3. Street Food
لا تقتصر الثقافة الغذائية على الطبخ في البيوت، وهذه المهمة غير مقتصرة على النساء فقط ومحدودة بين جدران المطبخ، غير أنها لا تعد ضمن الأعمال المنزلية، هذا ليس إلّا صورة نمطية للطعام. لندع كل هذه الأفكار جانبًا ونقابل أبطال أكل الشارع المحليين في القارة الآسيوية. ممن نجدهم في الشوارع والأسواق الشعبية، الأماكن الفقيرة المهمشة في العالم، والغنية بتنوعها وفرادتها.
تأخذنا سلسلة Street Food، المعروضة على شبكة نتفليكس، إلى شوارع الأكل في عواصم شرق آسيا، تلك الشوارع التي ما تزال تحافظ على تقاليد الأكل المحلي الخالص، المصنوع من جهود أهل المكان.
بدايةً من تايلاند وحتى جزر الفليبين، كل عاصمة فيها شارع، وكل شارع فيه عربة أو كشك صغير يعرض علينا حكاية، بعيدة كل البعد عن الصورة النمطية المرسومة في عقولنا عن ثقافة بلدان آسيا، بأنها ثقافة موحدة جامعة لكل أهل القارة، من قبيل أنهم جميعهم يأكلون الأرز والأسماك النيئة.
في هذه السلسلة نقرّب العدسة أكثر نحو الجوهر، نأخذ لقطة مقربة في أكثر مناطق العالم ازدحامًا، شوارع استثنائية في الشكل والتكوين، هناك حيث أكل الشارع جزءًا من ثقافة المكان، يبذل في تحضيره الطباخون قصارى جهدهم، أولًا، للحفاظ عليه باعتباره تقليد ثابت ومتوارث ولأنه يؤمن لهم الحاضر، ويعينهم في التغلب على الفقر وصعوبات الحياة، يكسبهم مودة من الأخرين، هذا إلى جانب رغبتهم القوية بتحضير الطعام اللذيذ.
وهكذا نلقي نظرة على تلك الأكشاك الصغيرة، ونقابل طباخين مسنين يطبخون بصبر ويقدمون طعامهم بابتسامة، أمام مسؤولية بقاء أطباقهم على قيد الحياة، وطباخين شبابًا ورثوا ذلك الطبخ عن آبائهم وأجدادهم ويسعدون بأن لهم فرصة الحفاظ على أرواحهم، عبر تكرار فعل الشيء نفسه كل يوم وعلى مدى سنوات.
في تايوان نقابل طباخة تتخلى عن حلمها في الدراسة، لتساعد والديها في صناعة طبق رأس السمك الذي لم يعد يطبخه سواهم، وكأنها بتخليها عن حلم شخصي تحقق حلمًا جماعيًا. هذا حال طباخة شابة أخرى في سيريلانكا رجعت من أمريكا للوقوف بجانب عائلتها المفلسة ومد يد العون لهم لتزدهر صناعة حلوياتهم من جديد. هذا ما تفعله أيضًا طباخة سبعينية في تايلاند، وعجوز تقف على مشارف عامها المئوي في أندونيسيا
يجب التأكد من أن الطبيعة هي التي تطعمنا وليس التصنيع، فممارسة الطهو إعلان استقلال عن الشركات التي تحوّل كل لحظة إلى فرصة جديدة للاستهلاك
تعتبر حكايات الأشخاص والأطباق تلك أشبه برحلة عبر الزمان والمكان، تميزها الأفعال اليومية، ومعنى تكبد العناء للإنتاج، وحب العمل والإخلاص له. هذا السحر الذي تقدمه الأطباق المحليّة التقليدية المطبوخة بأيدي أصحابها.
اقرأ/ي أيضًا: المعلم العربي على مذبح أخلاقيات العلم
على العكس من صورة البطل التقليدي في الأفلام التي نعرفها، تقدّم هذه السلاسل صورة عن أشخاص غيّرت مهنة طهو الطعام حياتهم، وشكلت مهمة تحضير الأطباق التقليدية جوهرًا لأفعالهم اليومية، هذا الفعل الذي قضت عليها الحياة العصرية. كل ذلك يلعب دورًا مؤثرًا في رسم أحد أهم أبعاد الصورة الثقافية لحياة البشر، ويساهم في تخليد تقاليدهم، فالطعام التقليدي جزء من تراث البشر على الأرض، لذلك يجب التأكد من أن الطبيعة هي التي تطعمنا وليس التصنيع، فممارسة الطهو إعلان استقلال عن الشركات التي تحول كل لحظة إلى فرصة جديدة للاستهلاك.
اقرأ/ي أيضًا: