في الكثير من الأحيان قد نعاني من تصرفات قد تبدو للوهلة الأولى بعيدة عن شخصياتنا، العصبية المفرطة مثلًا لشخص يتسم بالهدوء، التوتر المصاحب لبعض المواقف التي لا توترنا عادة، والكثير من الأمثلة التي لو بحثنا جيدًا لوجدناها مختبئة في مكان ما في داخلنا، إلا أننا نتجاهل، ربما، رؤيتها. وغالبًا ما تكون هذه التصرفات نتاج مشاعر داخلية تربطنا بمواقف شبيهة اختبرناها سابقًا، وكونت لدينا مشاعر معينة تفرضها علينا في مواقف شبيهة. يخبرنا الدكتور ديفيد هاوكينز في كتابه السماح بالرحيل أن هذه فوضى المشاعر التي قد نحياها هذه ما هي إلا نتيجة تجاهلنا لها إنكارنا إياها منذ لحظة تكونها، ويخبرنا أن خير الطرق للتعافي من هذه الفوضى هو فتح بوابة الروح لها لتشكيل معبر آمن يسمح لها بالرحيل.
يضعنا كتاب السماح بالرحيل بمواجهة مع شجاعتنا لتجاوز المشاعر من خلال مواجهتها والاعتراف بها دون قمع وإنكار
نظرية قشرة البصلة
تشكل المشاعر التي نحياها عبر سنوات حياتنا خاصة في الطفولة أساس تكويننا الإدراكي لاحقًا، ولها دور كبير في تحديد تعاملاتنا مع المحيط الخارجي وما تنطوي عليه ذواتنا كذلك من حيث أفكارنا وسلوكنا، تكون المشكلة في حال كانت هذه المشاعر سلبية بطريقة تشعر صاحبها بضغوطات تعيقه مستقبلًا عن المضي قدمًا في حياته حتى تصبح تراكمات يصعب تجاوزها، وقد أطلق العلماء على هذه المشاعر المتراكمة اسم "نظرية قشرة البصلة"، حيث شبه كل شعور متراكم بقشرة تنطوي على قشرة تتبعها أخرى وهكذا مشكّلة ما يشبه البصلة.
تأتي هنا العلاقة المباشرة بين كتاب السماح بالرحيل وبين القارئ الذي يطالعه بعين الباحث عن علاج لما يعانيه من تراكمات مشاعر راسخة منذ الطفولة مرورًا بكل المشاعر التي تراكمت عبر مرحلة النضج وصولًا إلى الزمن الحاضر، حيث يساعد قارئه على إزالة قشور البصلة وعلاج ما يكمن وراءها من خلل متراكم عبر الزمن. يشرح الدكتور هاوكينز في السماح بالرحيل أن عبارات مثل" أحداث العالم هي سبب قلقي" أو" لقد أثار غضبي" وغيرها من العبارات التي قد نتذرع بها لمواراة مشاعرنا الحقيقية تجاه الأمر، ما هي إلا مجرد حيلة عقلية يلجأ إليها المنطق ليبقي المشاعر الحقيقية خارج نطاق الوعي، وحسب قوله "المشاعر المكبوتة والمقموعة تسعى لأن تجد متنفسًا لها"، وما إن تسمح لنا الفرصة للتنفيس عنها فإننا لن نتوانى لحظة عن الانفجار.
يضعنا كتاب السماح بالرحيل أمام مواجهة مع شجاعتنا لتجاوز هذه المشاعر من خلال مواجهتها والاعتراف بها دون قمع ودون إنكار، وإلا فإنها من الممكن أن تكون سببًا في فقدان شغفنا للحياة.
عندما نتخلى أو نسمح برحيل شعور ما، فإننا بذلك نحرر أنفسنا من كل الأفكار المرتبطة به
آلية السماح بالرحيل
يصف الدكتور هاوكينز السماح بالرحيل بأنه يشبه" انقطاعًا مفاجئًا لضغط داخلي أو إنقاص وزن يصاحبه شعور مفاجئ بالراحة والخفة مع شعور بسعادة وحرية أكبر"، أما عن آليته فهي إعادة النظر للأمور التي من شأنها إثارة الغضب لنا والتعامل معها باستخفاف وتفاهة إلى حد ما، عندها سيكون من السهل تجاوز المشاعر المصاحبة لها من خوف أو توتر أو غضب.
لا يعني هذا الأمر بطبيعة الحال تبلد المشاعر أو برودتها، لكن التخفيف من وقع هذه الأحداث على النفس يساعد في تكوين حالة من السلام الداخلي تجاه الحياة مما يعني نوعية حياة صحية أكثر.
ورد في الكتاب "إن الأفكار تخزن في بنك الذاكرة بحسب المشاعر المرتبطة بهذه الأفكار، ولهذا عندما نتخلى أو نسمح برحيل شعور ما، فإننا بذلك نحرر أنفسنا من كل الأفكار المرتبطة به"، وبهذا نصل برأي الكاتب إلى القيمة الرائعة التي يسعى إلى إيصالها لنا وهي التسليم، بمعنى التحرر من المشاعر السلبية في منطقة معينة وبهذا نسمح للإبداع أو العفوية بالظهور بدون أدنى مقاومة أو تدخل من الصراع الداخلي.
إن التسليم و السماح للمشاعر السلبية بالرحيل تحول صاحبها من موقع المفعول به لموقع الفاعل
ليس الأمر بالسهولة المتخيلة
إن لحواسيبنا الصغيرة المحمولة فوق أكتافنا "عقولنا" برمجة معينة اعتادت عليها عبر سنوات عديدة من الزمن "ما يشكل سنوات عمرنا" لذا هل من الممكن أن يتم إعادة ضبطها وبرمجتها بسهولة لأننا أدركنا فجأة أننا نعاني من فوضى مشاعر متراكمة تجاه مواقف الحياة؟
بالطبع لا يمكن ذلك، إن الأمر يحتاج أولًا أن نعي المشكلة ولا نتجاهلها أي تمامًا كما يخبرنا كتاب السماح بالرحيل الاعتراف بوجود المشكلة أولًا، بعد ذلك يكون العلاج والذي سيستغرق فترة طويلة على أنها متراوحة بين الناس على حسب إرادتهم وتسليمهم للأمر.
السؤال الآن، هل سنقبل على العلاج لمجرد اعترافنا بوجود المشكلة؟ ألن نقاوم؟
بالطبع سنقاوم، وهذا ما تناوله كذلك الدكتور هاوكينز في فصل مقاومة السماح بالرحيل حينما قال: "إن السماح برحيل المشاعر السلبية يعني حل الأنا التي ستحاول أن تقاوم في كل مرة، من خلال جعل الطريقة محل شك، أو من خلال نسيان التسليم أو زيادة مفاجئة في الهروب من الواقع أو التنفيس عن المشاعر بالتعبير والتصرفات"، يكون حل هذه المقاومة بالتخلي عن مقاومتها والسماح لها هي أيضًا بالرحيل.
إن ما يكمن خلف المقاومة غالبًا يتعلق بخوف ما، فما هو؟ لما ندرك هذا ونتمعن في الخوف وسببه سيتبدد الخوف وتتبدد معه المقاومة، هنا ستبدأ مقاومة من نوع آخر وهي مقاومة الأنا لفكرة السقوط والتهاوي لذا ستبدأ بمحاولة إثارة الحيل لخداعنا، وهذه إشارة على أننا نسير في الاتجاه الصحيح.
إن التسليم و السماح للمشاعر السلبية بالرحيل تحول صاحبها من موقع المفعول به لموقع الفاعل، فهو لم يعد بعد الآن مجرد ردة فعل وإنما هو من يصنع الفعل وعلى أن هذا سيخلق مقاومة شرسة من قبل المشاعر والأنا المتعلقة بها إلا أنها ستربكها لأنها ستعلم أن بإمكاننا التخلي عنها و السماح لها بالعبور.
كتاب السماح بالرحيل خطوة مهمة في سبيل تحرير النفس من عبء المشاعر التي تثقلها
اقتباسات من كتاب السماح بالرحيل
نظرًا لاعتباره واحدًا من أهم الكتب في مجاله فقد رافق كتاب السماح بالرحيل ضجة كبيرة في أوساط علم النفس الاجتماعي والروحي، والكثيرون سعوا لتلخيصه من خلال الفيديوهات أو من خلال كتابة نبذة تعريفية عنه لتسهيل الأمر على القارئ، وكثير من المقالات تناولت اقتباسات من الكتاب نفسه تلخص موضوعه وتشمله بصفة عامة. ومن أجمل الاقتباسات من الكتاب:
- اسمح برحيل رغبتك في مقاومة الشعور فالمقاومة هي ما تجعل الشعور يستمر فعندما تتخلى عن المقاومة أو محاولة تغيير الشعور سيختفي وتتبدد الطاقة معه.
- طاقة الخوف اعلى من طاقة اللامبالاة، لان الخوف على الأقل يحفزنا على التصرف ، ومن خلاله يمكننا أيضًا أن نتخلى عن الخوف لنرتقي إلى الغضب أو الفخر أو الشجاعة ، وكلها حالات أعلى من اللامبالاة.
- الخطوة الأولى أن تسمح لنفسك أن تشعر بالشعور بدون مقاومته، أو الهروب منه، أو الخوف منه، أو إدانته، أو تهذيبه!
- إن كل أزمة تحمل في طياتها بذرة تحول، ونهضة، وتوسع، ونقله في الوعي. بالإضافة إلى السماح برحيل القديم وولادة الجديد.
إن التعلق المرضي بالماضي والسماح للروح بالبقاء تحت وطأته أمر مثير للخوف والريبة في الواقع، ذلك أنه يعيق التقدم والإبداع بل ويبرر للإنسان تخاذله تجاه نفسه وتجاه المحيطين به كذلك، ولكن الأمر الأكثر ريبة هو الاستسلام التام أمام محاولات الخروج من هذه المشكلة وعلاجها، وعلى أن الأمر يشكل تحديًا كبيرًا وصعوبات في تجاوزها لكن ذواتنا تستحق منا إصرارًا وثباتًا للتقدم خطوة تجاه الحل، ويعتبر كتاب السماح بالرحيل خطوة مهمة في سبيل تحقيق هذه الغاية وهو من أفضل الكتب التي ينصح بقراءتها.
